يكون شريك الله عز وجلّ محدثاً مخلوقاً وإمّا أن يعود إلى الجاعلين لله شركاء فيكون المعنى وجعلوا لله الذي خلقهم شركاء لا يخلقون شيئاً وهذا كالدليل القاطع بأنّ المخلوق لا يكون شريكاً لله وكل ما في الكون محدث مخلوق والله تعالى خالق لجميع ما في الكون فامتنع أن يكون لله شريك في ملكه ﴿وخرقوا﴾ قرأه نافع بتشديد الراء، والباقون بالتخفيف، أي: اختلقوا ﴿له بنين وبنات بغير علم﴾ وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى وسئل الحسن عنه فقال: كلمة غريبة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله ﴿سبحانه﴾ تنزيهاً له ﴿وتعالى عما يصفون﴾ بأن له شريكاً أو ولداً
﴿بديع السموات والأرض﴾ أي: مبتدعهما من غير سبق مثال ورفع بديع على الخبر والمبتدأ محذوف أي: هو بديع أو على الابتداء والخبر ﴿أنى يكون له ولد﴾ أي: من أين يكون له ولد ﴿ولم تكن له صاحبة﴾ يكون منها الولد لأنّ الولد لا يكون إلا من صاحبة أنثى ﴿وخلق كل شيء﴾ أي: من شأنه أن يخلق ﴿وهو بكل شيء عليم﴾ لا تخفى عليه خافية، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: الأوّل: إنه مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة من جنس ما يوصف بالولادة لكونها مخلوقة لا يستقيم أن توصف بالولادة لاستمرارها وطول مدّتها ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والدا، الثاني: أن الولادة لا تكون إلا من ذكر وأنثى مجانسين وهو متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة، والثالث: أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج، وقوله تعالى:
﴿ذلكم﴾ إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ وقوله تعالى: ﴿الله ربكم لا إله إلا هو خالق كلّ شيء﴾ أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض في غير الله تعالى بدلاً أو صفة لأنّ الله تعالى أوّل وليس بصفة والبعض خبراً وقوله تعالى: ﴿فاعبدوه﴾ مسبب عن مضمون ذلك فإنّ من استجمع هذه الصفات استحق العبادة ﴿وهو على كل شيء وكيل﴾ أي: وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال فيجازي عليها ﴿لا تدركه الأبصار﴾ جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها والإدراك إحاطة بكنه الشيء وحقيقته وتمسك بظاهر هذه الآية قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة وقالوا: إنّ الله تبارك وتعالى لا يراه أحد من خلقه وإن رؤيته مستحيلة عقلاً لأنّ الله تعالى أخبر أنّ الأبصار لا تدركه وإدراك البصر عبارة عن الرؤية إذ لا فرق بين قولك أدركته ببصري ورأيته ببصري فثبت بذلك أنّ لا تدركه الأبصار بمعنى لا تراه الأبصار وهذا يفيد العموم ومذهب أهل السنة إن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة واستدلوا لمذهبهم بأشياء من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (القيامة ٢٢، ٢٣)
ففي هذه الآية دليل على أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وقال تعالى: ﴿كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون﴾ (المطفقين، ١٥)
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: حجب قوماً بالمعصية وهي الكفر فثبت أنّ قوماً يرونه بالطاعة وهي الإيمان، وقال مالك
من النار وفي رواية الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء وقوله من فيح جهنم أي: وهجها وحرّها وقال ابن مسعود وإن منكم إلا واردها يعني القيامة والكناية راجعة إليها قال البغوي والأوّل أصح وعليه أهل السنة وروي أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير وفي رواية من إيمان وعن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول وجدتها ملأى فيقول الله: له اذهب فادخل الجنة فإنّ لك مثل الدنيا وعشر أمثالها فيقول له أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه» فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي: أنيابه وأضراسه وقيل: هي أعلى الأسنان.
وعن جابر قال قال رسول الله ﷺ «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة قال فيخرجون فيطرحون على باب الجنة قال فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل الحمم الفحم والغثاء كل ما جاء به السيل» وقرأ الكسائي ننجي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ولما أقام تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث قال تعالى عطفاً على قوله ويقول الإنسان:
﴿وإذا تتلى عليهم﴾ أي: الناس من المؤمنين والكفار من أيّ تال كان ﴿آياتنا﴾ أي: القرآن حال كونها ﴿بينات﴾ أي: واضحات وقيل مرتبات الألفاظ ملخصات المعاني وقيل: ظاهرات الإعجاز ﴿قال الذين كفروا﴾ بآيات ربهم البينة جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم ﴿للذين آمنوا﴾ أي: لأجلّهم أو مواجهة لهم إعراضاً عن الاستدلال بالآيات بالإقبال على هذه الشبهة الواهية وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا من قولهم ﴿أي الفريقين﴾ نحن بما لنا من الاتساع أم أنتم بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال ولو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا لأنّ الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة وإنما كان الأمر بالعكس فإنّ الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة هذا حاصل شبهتهم والقائل ذلك هو النضر بن الحارث وذووه من قريش للذين آمنوا من أصحاب النبيّ ﷺ وكان فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين أيّ الفريقين ﴿خير مقاماً﴾ أي: موضع قيام أو إقامة على قراءة ابن كثير بضم الميم والباقون بفتحها ففي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان إما من قام ثلاثياً أو من أقام
تنبيه: قالوا زيد خير من عمرو وشر من بكر ولم يقولوا أخير منه ولا أشرّ منه لأنّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما ولم يثبتا إلا في فعل التعجب فقالوا
غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: ١٥)
وقوله تعالى: ﴿وعد الله﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بفعله المقدر لأن قوله تعالى: ﴿غرف﴾ في معنى وعدهم الله ذلك ﴿لا يخلف الله الميعاد﴾ لأن الخلف نقص وهو على الله سبحانه محال، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وقوله: الغابر أي: الباقي في الأفق في ناحية المشرق والمغرب.
ولما وصف الله تعالى الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيمة فيها وصف الدنيا بصفات توجب اشتداد النفرة عنها بقوله تعالى:
﴿ألم تر﴾ أي: تعلم ﴿أن الله﴾ أي: الذي له كمال القدرة ﴿أنزل من السماء﴾ أي: التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهر الماء على ذلك، والمراد بالسماء: الجرم أو السحاب ﴿ماء﴾ وهو المطر، قال الشعبي: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه ﴿فسلكه﴾ أي: أدخل ذلك الماء خلال التراب حال كونه ﴿ينابيع في الأرض﴾ أي: عيوناً ومجاري ومسالك كالعروق في الأجسام ﴿ثم يخرج﴾ الله تعالى ﴿به﴾ أي: بالماء ﴿زرعاً مختلفاً ألوانه﴾ من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك ومختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها ﴿ثم يهيج﴾ أي: ييبس ﴿فتراه﴾ بعد الخضرة مثلاً ﴿مصفراً﴾ من يبسه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يفصل عن منابته ﴿ثم يجعله حطاماً﴾ أي: فتاتاً ﴿إن في ذلك﴾ أي: التدبير على هذا الوجه ﴿لذكرى﴾ أي: تذكيراً وتنبيهاً ﴿لأولي الألباب﴾ أي: أصحاب العقول الصافية جداً فيتذكرون هذه الأحوال في النبات فيعلمون بدلالته على وحدانية الله تعالى شأنه وقدرته وأحوال الحيوان والإنسان، وإنه وإن طال عمره فلابد من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء ثم تكون عاقبته الموت، فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات مذكرة حصول مثل هذه الأحوال في نفسه في حياته فحينئذ تعظم نفرته عن الدنيا ولذاتها.
ولما بين تعالى الدلائل على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا ولذاتها ذكر أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الصدور ونور القلوب فقال سبحانه:
﴿أفمن شرح الله﴾ أي: الذي له القدرة الكاملة ﴿صدره للإسلام﴾ أي: وسعه لقبول الحق فاهتدى ﴿فهو﴾ أي: بسبب ذلك ﴿على نور من ربه﴾ أي: المحسن إليه كمن أقسى الله تعالى قلبه دل على هذا ﴿فويل﴾ كلمة عذاب ﴿للقاسية قلوبهم من ذكر الله﴾ قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وأما نور الله تعالى فهو لطفه. روي: «أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية فقيل: يا رسول الله فما علامة انشراح الصدر للإسلام قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت».
فإن قيل: إن ذكر الله تعالى سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان
أين المفرّ من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه تعالى. والثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقيل: أبو جهل خاصة.
وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ ردع عن طلب المفرّ ﴿لا وزر﴾ أي: لا ملجأ ولا حصن استعير من الجبل. قال السدّي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله تعالى لهم: لا وزر يعصمكم مني يومئذ واشتقاقه من الوزر وهو الثقل ﴿إلى ربك﴾ أي: المحسن إليك بأنواع الإحسان لا إلى شيء غيره ﴿يومئذ﴾ أي: إذ كانت هذه الأمور ﴿المستقر﴾ أي: استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لغيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا. وقال ابن مسعود: المصير والمرجع، قال الله تعالى ﴿إلى ربك الرجعى﴾ (العلق: ٨)
و ﴿إليه المصير﴾ (المائدة: ١٨)
وقال السدّي: المنتهى، نظيره ﴿وإنّ إلى ربك المنتهى﴾ (النجم: ٤٢)
﴿ينبأ﴾ أي: يخبر تخبيراً عظيماً ﴿الإنسان يومئذ﴾ أي: إذا كان الزلزال الأكبر ﴿بما قدّم﴾ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: بما قدّم قبل موته من عمل صالح وسيء ﴿وأخر﴾ بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. وقال ابن عطية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة، وقال قتادة: بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه. وقال مجاهد: بأوّل عمله وآخره. وقال عطاء: بما قدم في أوّل عمره وما أخر في آخر عمره. وقال يزيد بن أسلم: بما قدّم من أموال نفسه وما أخر خلفة للورثة، والأولى أن يقال ينبأ بجميع ذلك إذ لا منافاة بين هذه الأقوال.
﴿بل الإنسان﴾ أي: كل واحد من هذا النوع ﴿على نفسه﴾ أي: خاصة ﴿بصيرة﴾ أي: حجة بينة على أعماله والهاء للمبالغة يعني: أنه في غاية المعرفة بأحوال نفسه، فيشهد عليه بعمله سمعه وبصره وجوارحه قال الله تعالى: ﴿كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً﴾ (الإسراء: ١٤)
.k
قال البغوي: ويحتمل أن يكون معناه: بل للإنسان على نفسه يعني جوارحه، فحذف حرف الجر كقوله تعالى: ﴿وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم﴾ (البقرة: ٣٣)
أي: لأولادكم، ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
﴿ولو ألقى﴾ أي: ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق. وقوله تعالى: ﴿معاذيره﴾ جمع معذرة على غير قياس قاله الجلال المحلي. أي: لو جاء بكل معذرة ما قبلت منه. وقال الزمخشريّ: المعاذير ليس بجمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر ا. هـ. قال أبو حيان: وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير ا. هـ. وقيل: معاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى: ولو أرخى ستوره والمعاذير الستور بلغة اليمن قاله الضحاك. وحكى الماورديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ﴿ولو ألقى معاذيره﴾ أي: ولو تجرّد من ثيابه.
ولما كان ﷺ إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن ينفلت منه أمره الله تعالى بأن ينصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي الله تعالى وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه بقوله تعالى:
﴿لا تحرك به﴾ أي: بالقرآن ﴿لسانك﴾ ما دام جبريل عليه السلام يقرؤه ﴿لتعجل به﴾ أي:


الصفحة التالية
Icon