لما نهوا عنه} (الأنعام، ٢٨)
﴿ونذرهم﴾ أي: نتركهم ﴿في طغيانهم﴾ أي: ضلالهم ﴿يعمهون﴾ أي: يتردّدون متحيرين لا نهديهم هداية المتقين.
﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى﴾ كما اقترحوا ﴿وحشرنا﴾ أي: جمعنا ﴿عليهم كل شيء قبلاً﴾ قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء أي: معاينة فشهدوا بصدقك، والباقون بضم القاف والباء جمع قبيل أي: فوجاً فوجاً ﴿ما كانوا ليؤمنوا﴾ لما سبق في علم الله، وقوله تعالى: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ استثناء منقطع أي: لكن إن شاء الله إيمانهم فيؤمنون أو استثناءً من أعمّ الأحوال أي: لا يؤمنون في حال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم ﴿ولكن أكثرهم يجهلون﴾ أي: إنهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم لأنّ بعضهم معاند مع أنّ مطلق الجهل يعمهم فيشمل المعاند أو لكنّ أكثر المسلمون يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم.
﴿وكذلك﴾ أي: ومثل ما جعلنا لك أعداء من كفار الإنس والجنّ ﴿جعلنا لكل نبيّ﴾ أي: ممن كان قبلك ﴿عدواً﴾ ويبدل منه ﴿شياطين﴾ أي: مردة ﴿الإنس والجنّ﴾ وفي هذا دليل على أنّ عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله تعالى وخلقه ﴿يوحي﴾ أي: يوسوس ﴿بعضهم﴾ أي: الشياطين من النوعين ﴿إلى بعض زخرف القول﴾ أي: مموهه من الباطل ﴿غروراً﴾ أي: لأجل أن يغروهم بذلك ﴿ولو شاء ربك﴾ إيمانهم ﴿ما فعلوه﴾ أي: هذا الذي أنبأتك به من عداوتهم وما تفرع عليها وفي هذا دليل أيضاً ﴿فذرهم﴾ أي: اترك الكفرة على أيّ حالة اتفقت ﴿وما يفترون﴾ من الكفر وغيره مما زين لهم وهذا قبل الأمر بالقتال، وقوله تعالى:
﴿ولتصغى﴾ عطف على غروراً إن جعل علة أي: ولتميل ميلاً قوياً ﴿إليه﴾ أي: الزخرف الباطل ﴿أفئدة﴾ أي: قلوب ﴿الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي: ليس في طبعهم الإيمان بها لأنها غيب واهم لبلادتهم واقفون مع وهمهم ولذلك استولت عليهم الدنيا التي هي من أصل الغرور أو متعلق بمحذوف أي: وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً، والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا: اللام لام العاقبة وهو قول الزمخشريّ في كشافه إنّ اللام للصيرورة ﴿وليرضوه﴾ أي: الزخرف الباطل لأنفسهم ﴿وليقترفوا﴾ أي: يكتسبوا ﴿ما هم مقترفون﴾ من الآثام فيعاقبوا عليها ونزل لما قال مشركوا قريش للنبيّ ﷺ اجعل بيننا وبينك حكماً من أحبار اليهود وإن شئت من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك.
﴿أفغير الله﴾ أي: قل لهم يا محمد أفغير الله ﴿أبتغي﴾ أي: أطلب ﴿حكماً﴾ أي: قاضياً بيني وبينكم ﴿وهو الذي أنزل إليكم الكتاب﴾ أي: الأكمل المعجز وهو هذا القرآن الذي هو تبيان لكل شيء ﴿مفصلاً﴾ أي: مبيناً فيه الحق من الباطل ﴿والذين آتيناهم الكتاب﴾ أي: المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور ﴿يعلمون أنه منزل من ربك بالحق﴾ لما عندهم به من البشارة في كتبهم ولما له من موافقتهم في ذكر الأحكام المحكمة والمواعظ الحسنة وكثرة ذكر الله على وجوه ترقق القلوب وتفيض الدموع وتصدع الصدور مع ما يزيد به على ما في كتبهم من التفصيل بما يفهم المعارف الإلهية والمقامات الصوفية في ضمن الأحكام السياسية وإنما وصف جميعهم بالعلم لأنّ أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن بأدنى تأمل. وقيل: المراد مؤمنوا أهل الكتاب كعبد
ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد، وقيل: نعدّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها، وقيل نعدّ الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان. ثم بيّن تعالى ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين والمجرمين في كيفية الحشر فقال:
﴿يوم﴾ أي: واذكر يوم ﴿نحشر المتقين﴾ بإيمانهم ﴿إلى الرحمن﴾ أي: إلى محل كرامته وقوله تعالى ﴿وفداً﴾ حال أي: وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم والوفد الجماعة الوافدون يقال وفد يفد وفداً ووفوداً ووفادة أي: قدم على سبيل التكرمة فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالصف، وقال أبو البقاء وفد جمع وافد مثل ركب وراكب وصحب وصاحب وهذا الذي قاله ليس بمذهب سيبويه لأنّ فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه وأجازه الأخفش وجرى عليه الجلال المحلي فقال: وفد جمع وافد بمعنى راكب انتهى.
وقال ابن عباس: وفداً ركباناً، وقال أبو هريرة على الإبل وقال عليّ رضي الله تعالى عنه والله ما يحشرون على أرجلهم ولكن فوق نوق رحالها الذهب ونجائب سروجها يواقيت إن هموا بها سارت وإن هموا بها طارت
﴿ونسوق المجرمين﴾ بكفرهم ﴿إلى جهنم﴾ وقوله تعالى: ﴿ورداً﴾ حال أي: مشاة بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء وقيل: عطاش قد تقطعت أعناقهم من شدّة العطش لأنّ من يرد الماء لا يرد إلا بعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء وقوله تعالى:
﴿لا يملكون الشفاعة﴾ الضمير فيه للعباد المدلول عليهم بذكر المتقين والمجرمين وقيل للمتقين وقيل: للمجرمين وقوله تعالى: ﴿إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً﴾ استثناء متصل على القولين الأوّلين، منقطع على الثالث والمعنى أنّ الشافعين لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً كقوله تعالى: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ (الأنبياء، ٢٨)
ويدخل في ذلك أهل الكبائر من المسلمين إذ كل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد فوجب دخوله تحته ويؤيده ما روى عن ابن مسعود أنه ﷺ قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا: وكيف ذلك قال: يقول كل صباح ومساء: اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأنّ محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهد توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة» فظهر أنّ المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر ولما ردّ سبحانه وتعالى على عبدة الأوثان عاد إلى الردّ على من أثبت له ولداً بقوله تعالى:
﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولداً﴾ أي: قالت اليهود: عزير ابن الله وقالت النصارى: المسيح ابن الله وقالت العرب: الملائكة بنات الله.
﴿لقد جئتم شيئاً إدّاً﴾ قال ابن عباس أي: منكراً وقال قتادة أي: عظيماً وقال
﴿من كل مثل﴾ أي: يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ﴿لعلهم يتذكرون﴾ أي: يتعظون به وقرأ نافع وقالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد والباقون بالإدغام. وقوله تعالى:
﴿قرآناً عربياً﴾ فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون منصوباً على المدح لأنه لما كان نكرة امتنع إتباعه للقرآن، ثانيها: أن ينتصب بيتذكرون أي: يتذكرون قرآناً، ثالثها: أن ينتصب على الحال من القرآن على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطئة لأن الحال في الحقيقة عربياً وقرآناً توطئة له نحو جاء زيد رجلاً صالحاً ﴿غير ذي عوج﴾ أي: مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف نعت لقرآناً أو حال أخرى.
فإن قيل: هلا قيل: مستقيماً أو غير معوج؟ أجيب: بأن في ذلك فائدتين إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج قط كما قال تعالى: ﴿ولم يجعل له عوجاً﴾ (الكهف: ١)
ثانيتهما: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان، وقيل: المراد بالعوج الشك واللبس قال القائل:
*وقد أتاك يقين غير ذي عوج | من الإله وقول غير مكذوب* |
تنبيه: وصف تعالى القرآن بثلاث صفات؛ أولها: كونه قرآناً والمراد كونه متلواً في المحاريب إلى قرب قيام الساعة، ثانيها: كونه عربياً أي: أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال تعالى: ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله﴾ (الإسراء: ٨٨)
ثالثها: كونه غير ذي عوج، قال مجاهد: غير ذي لبس وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غير مختلف، وقال السدي: غير مخلوق، ويروى ذلك عن مالك بن أنس، وحكى شقيق وابن عيينة عن سبعين من التابعين: أن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق.
ولما شرح الله تعالى وعيد الكفار مثل لما يدل على فساد مذهبهم وقبيح طريقتهم بقوله تعالى:
﴿ضرب الله﴾ أي: الذي له الملك كله ﴿مثلاً﴾ أي: للمشركين والموحدين وقوله تعالى: ﴿رجلاً﴾ بدل من مثلاً وقوله تعالى: ﴿فيه شركاء﴾ يجوز أن تكون الجملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة ل ﴿رجلاً﴾ ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده وشركاء فاعل به قال ابن عادل: وهو أولى لقربه من المفرد وقوله تعالى: ﴿متشاكسون﴾ صفة لشركاء والتشاكس التخالف وأصله سوء الخلق وعسره وهو سبب التخالف أي: متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم يقال: رجل شكس وشرس إذا كان سيء الخلق مخالفاً للناس لا يرضى بالإنصاف ﴿ورجلاً سلماً﴾ أي: خالصاً من نزاع ﴿لرجل﴾ أي: خالصاً له لا شريك له فيه. ولا منازع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بألف بعد السين وكسر اللام بعدها، والباقون بغير ألف وفتح اللام وهو الذي لا ينازع فيه من قولهم: هو لك سلم أي: مسلم لا منازع لك فيه.
وقوله تعالى: ﴿هل يستويان﴾ استفهام إنكار أي: لا يستويان وقوله تعالى: ﴿مثلاً﴾ تمييز والمعنى اضرب لقومك مثلاً وقل لهم: ما تقولون في رجل مملوك لشركاء بينهم اختلاف وتنازع وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه حوائجهم وهو متحير في أمره، وكلما أرضى أحدهم غضب الباقون وإذا احتاج إليهم فكل واحد يرده إلى الآخر فبقي متحيراً لا يعرف أيهم أولى أن يطلب رضاه وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب في عذاب أليم. وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه على مهماته فأي هذين العبدين
إذا كانت الروح باقية، فإنّ الفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف.
﴿والتفت الساق بالساق﴾ أي: اجتمعت إحداهما بالأخرى إذ الالتفاف الاجتماع، قال تعالى: ﴿جئنا بكم لفيفاً﴾ (الإسراء: ١٠٤)
ومعنى الكلام اتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وغيرهما. وقال الشعبي: التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب. قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال سعيد بن المسيب: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه. وقال السدي: لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، وأول الأقوال كما قال النحاس: أحسنها، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، قال أهل المعاني: لأنّ الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد: ساق. قال الجعدي:
*أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها | وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا* |
والضمير في قوله تعالى: ﴿فلا صدّق﴾ راجع للإنسان المذكور في ﴿أيحسب الإنسان﴾ أي: فلا صدّق النبيّ ﷺ فيما أخبره به بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة ولا في ماله بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مندوبة. وحذف المعمول لأنه أبلغ في التعميم.
﴿ولا صلى﴾ أي: ما أمر به من فرض وغيره فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل حبل الخلائق، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يصدق بالرسالة ولا صلى، أي: دعا لربه عز وجلّ وصلى على رسوله ﷺ وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله تعالى ولا صلى لله جل ذكره.
﴿ولكن﴾ أي: فعل ضد ما أمر به بأن ﴿كذب﴾ أي: بما أتاه به النبيّ ﷺ من قرآن وغيره ﴿وتولى﴾ أي: أعرض عنه وهذا الاستدراك واضح إذ لا يلزم من نفي التصديق والصلاة التكذيب والتولي. وقال القرطبي: معناه: كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان. وقيل: نزلت في أبي جهل.
﴿ثم ذهب﴾ أي: هذا الإنسان أو أبو جهل ﴿إلى أهله﴾ غير متفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حالة كونه ﴿يتمطى﴾ أي: يتبختر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك وأصله يتمطط أي: يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال، وقيل: هو من المطا وهو الظهر لأنه يلويه تبختراً في مشيته.
وقوله تعالى: ﴿أولى لك﴾ فيه التفات من الغيبة والكلمة اسم فعل واللام للتبيين أي: وليك ما تكره ﴿فأولى﴾ أي: فهو أولى بك من غيرك.
وقوله تعالى: ﴿ثم أولى لك فأولى﴾ تأكيد وقيل: هذه الكلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه، وأصلها من الولي وهو القرب. قال الله تعالى: ﴿قاتلوا الذين يلونكم﴾ (التوبة: ١٢٣)
وقال قتادة: ذكر لنا أنّ النبيّ ﷺ لما نزلت هذه الآية «أخذ بمجامع ثوب