﴿في الظلمات﴾ فمثل زائدة ﴿ليس بخارج منها﴾ وهو الكافر أي: ليس مثله. نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأبي جهل بن هشام وذلك إنّ أبا جهل رمى رسول الله ﷺ بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يقول: يا أبا يعلى ما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسفه آلهتنا وخالف آباءنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله، وقيل: في عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر وأبي جهل. ﴿كذلك﴾ أي: كما زين للمؤمنين إيمانهم ﴿زين للكافرين ما كانوا يعملون﴾ أي: من الكفر والمعاصي، قال أهل السنة: المزين هو الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى: زينا لهم أعمالهم وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان وردّ بالآية المذكورة.
﴿وكذلك﴾ أي: كما جعلنا فساق أهل مكة أكابرها ﴿جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها﴾ أي: عظماءها، وأكابر جمع أكبر كأفضل وأفاضل وأسود وأساود وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم كما قال في قصة نوح: ﴿أنؤمن لك واتبعك الأرذلون﴾ (الشعراء، ١١١)
وجعل فساقهم أكابرهم ﴿ليمكروا فيها﴾ بالصدّ عن الإيمان وذلك أنهم أجلسوا على طرق مكة أربع نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد ﷺ يقولون لكل من يقدم: إياكم وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب فكان هذا مكرهم ﴿وما يمكرون إلا بأنفسهم﴾ لأنّ وباله يحيق بهم ﴿وما يشعرون﴾ أي: وما لهم نوع شعور بذلك.
﴿وإذا جاءتهم﴾ أي: أهل مكة ﴿آية﴾ على صدق النبيّ ﷺ ﴿قالوا لن نؤمن﴾ به ﴿حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله﴾ أي: من النبوّة وذلك أنّ الوليد بن المغيرة قال للنبيّ ﷺ لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً فنزلت، وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل حين قال: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، والله لا نرضى إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه.
وقوله تعالى: ﴿الله أعلم حيث يجعل رسالاته﴾ استئناف للردّ عليهم بأن النبوّة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالته من علم أنه يصلح لها وحيث مفعول به لفعل محذوف دل عليه أعلم لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به أي: يعلم الموضع الصالح لوضعها فيه فيضعها وهؤلاء ليسوا أهلاً لها، وقرأ ابن كثير وحفص بنصب التاء ورفع الهاء ولا ألف قبل التاء على التوحيد، والباقون بكسر التاء والهاء وألف قبل التاء على الجمع ﴿سيصيب الذين أجرموا﴾ بقولهم ذلك ﴿صغار﴾ أي: ذل وهوان ﴿عند الله﴾ يوم القيامة، وقيل: تقديره من عند الله ﴿وعذاب﴾ أي: مع الصغار ﴿شديد﴾ أي: في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالنار ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿كانوا يمكرون﴾ من صدّهم الناس عن الإيمان وطلبهم ما لا يستحقونه.
بأن يقذف في قلبه نوراً فينفسح له ويقبله.
ولما نزلت هذه الآية سئل رسول الله ﷺ عن شرح الصدر فقال: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن ينشرح له قلبه وينفسخ» قيل: فهو لذلك أمارة، قال: «نعم الإنابة إلى
عن جعفر الصادق الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم.
ثالثها: قال سعيد بن جبير: هذا افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي.
رابعها: مطمع الشفاعة للأمة وهادي الخلق إلى الملة.
خامسها: الطاء من الطهارة والهاء من الهداية فكأنه قيل يا طاهراً من الذنوب يا هادياً إلى علام الغيوب.
سادسها: الطاء طول القراءة والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال تعالى: ﴿سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب﴾ (آل عمران، ١٥١)
سابعها: الطاء بتسعة في الحساب والهاء بخمسة تكون أربعة عشر ومعناها يا أيها البدر وأمّا على القول الثاني فقيل: معنى طه يا رجل وهو يروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي، ثم قال سعيد بن جبير بالنبطية، وقال قتادة بالسريانية وقال عكرمة بالحبشية وقال الكلبي بلغة عك وهو بتشديد الكاف ابن عدنان أخو معد، وحكى الكلبي أنك لو قلت في عك يا رجل لم تجب حتى تقول طه، وقال السدّي: معناه يا فلان وقيل: إنه ﷺ كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فؤمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً وقال الكلبيّ: لما نزل على رسول الله ﷺ الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه وكان يصلي الليل كله فأنزل الله عليه هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال تعالى:
﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ أي: لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل أي: خفف عن نفسك فقد ورد أنه ﷺ صلى الليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام ابق على نفسك فإنّ لها عليك حقاً ما أنزلناه لتهلك نفسك بالصلاة وتذيقها المشقة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام وقيل: لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك أي: لتتعنى وتتعب وما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك فنزلت، وأصل الشقاء في اللغة العناء وقيل: المعنى أنك لا تلام على كفر قومك، كقوله تعالى: ﴿لست عليهم بمسيطر﴾ (الغاشية، ٢٢)
وقوله تعالى: ﴿وما أنت عليهم بوكيل﴾ (الأنعام، ١٠٧)
أي: أنك لا تؤاخذ بذنبهم وقيل: إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وكان رسول الله ﷺ في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء فكأنه تعالى قال لا تظنّ أنك تبقى أبداً على هذه الحالة بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرّماً. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة وأبو عمرو بين بين وورش بين اللفظين والفتح عنده ضعيف جدّاً، وكذلك جميع رؤوس آي هذه السورة من ذوات الياء وقوله تعالى:
﴿إلا تذكرة﴾ استثناء منقطع أي: لكن أنزلناه تذكرة. قال الزمخشري: فإن قلت هل يجوز أن يكون تذكرة بدلاً من محل لتشقى قلت لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن ﴿لمن يخشى﴾ أي: لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار أو لمن علم الله تعالى منه أن يخشى بالتخويف منه، فإنه المنتفع به وقوله تعالى:
﴿تنزيلاً﴾ بدل من اللفظ بفعله الناصب له ﴿ممن خلق الأرض﴾ أي: من الله الذي خلق الأرض ﴿والسموات العلى﴾ أي: العالية الرفيعة التي لا يقدر على خلقها في عظمها غير الله تعالى والعلي جمع علياً كقولهم كبرى وكبر وصغرى وصغر وقدّم

*أبني كليب إن عميّ اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا*
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: والذي جاء بالصدق يعني: رسول الله ﷺ جاء بلا إله إلا الله وصدق به الرسول أيضاً بلغه إلى الخلق. وقال السدي: والذي جاء بالصدق جبريل عليه السلام جاء بالقرآن وصدق به محمد ﷺ تلقاه بالقبول، وقال أبو العالية والكلبي: والذي جاء بالصدق رسول الله ﷺ وصدق به أبو بكر رضي الله عنه، وقال عطاء: والذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع، وقال الحسن: هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاؤوا به في الآخرة وقوله تعالى:
﴿لهم ما يشاؤون﴾ أي: من أنواع الكرامات ﴿عند ربهم﴾ أي: في الجنة يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ﴿ذلك﴾ أي: هذا الجزاء ﴿جزاء المحسنين﴾ لأنفسهم بإيمانهم. وقوله تعالى:
﴿ليكفر الله عنهم﴾ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أن يسترها عليهم بالمغفرة.
تنبيه: في تعلق هذه اللام وجهان أحدهما: أنها متعلقة بمحذوف أي: يسر لهم ذلك ليكفر، ثانيهما: أنها متعلقة بنفس المحسنين كأنه قيل: الذين أحسنوا ليكفر أي: لأجل التكفير وقوله تعالى: ﴿أسوأ الذي﴾ أي: العمل الذي ﴿عملوا﴾ فيه مبالغة فإنه إذا كفر غيره أولى بذلك أو للإيذان بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية أو أنه بمعنى السيء كما جرى عليه الجلال المحلي كقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي: عادلاهم إذ ليس المراد به التفضيل، والناقص هو محمد الخليفة سمي به؛ لأنه نقص أعطية القوم والأشج هو عمر بن عبد العزيز سمي به لشجة أصابت رأسه.
﴿ويجزيهم أجرهم﴾ أي: ويعطيهم ثوابهم ﴿بأحسن الذي﴾ أي: العمل الذي ﴿كانوا يعملون﴾ أي: فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر لحسن إخلاصهم فيها وهذا أولى من قول الجلال المحلي إنه بمعنى الحسن. وقوله تعالى:
﴿أليس الله﴾ أي: الجامع لصفات الكمال كلها المنعوت بنعوت العظمة والجلال ﴿بكاف عبده﴾ أي: الخالص له استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر العين وفتح الباء الموحدة وألف بعدها على الجمع، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون الباء على الإفراد، فقراءة الإفراد محمولة على النبي ﷺ وقراءة الجمع على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن قومهم قصدوهم بالسوء كما قال الله تعالى ﴿وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه﴾ (غافر: ٥)
وكفاهم الله تعالى شر من عاداهم ويحتمل أن يراد بقراءة الإفراد: الجنس فتساوي قراءة الجمع وقيل: المراد أن الله تعالى كفى نوحاً عليه السلام الغرق وإبراهيم عليه السلام الحرق ويونس عليه السلام بطن الحوت فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.
﴿ويخوفونك﴾ أي: عباد الأصنام ﴿بالذين من دونه﴾ وذلك أن قريشاً خوفوا النبي ﷺ معاداة الأوثان، وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي: «أنه ﷺ بعث خالداً إلى العزى ليكسرها فقال له سادتها أي: خادمها: لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها
كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض وآخرها خلق آدم عليه السلام فهو قوله تعالى: ﴿لم يكن شيئاً مذكوراً﴾.
روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال: ليتها تمت فلا نبتلى أي: ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه السلام ﴿لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده. وسمع عمر رجلاً يقرأ ﴿لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ قال عمر: ليتها تمت يقول: ليته بقي ما كان، هذا وهما ضجيعاه ﷺ ولكن بقدر القرب يكون الخوف.
فإن قيل: إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً؟ أجيب: بأن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان.
روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: ﴿لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ الروح فصار مذكوراً. قال ابن سلام: لم يكن شيئاً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً.
وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى: ﴿إنا خلقنا الإنسان﴾ أي: بعد خلق آدم عليه السلام ﴿من نطفة﴾ أي: مادّة هي شيء يسير جداً من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
*ما لي أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنه*
وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه ﴿لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى: ﴿أمشاج﴾ أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتاً لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله ﴿رفرف خضر﴾ أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع، وقال الزمخشريّ: ﴿نطفة أمشاج﴾ كبرمة أعشار وبرد أكياش، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال أيضاً: نطفة مشج قال الشماخ:
*طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهين*
ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما اه. فقد منع أن يكون أمشاجاً جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالاً لا يكون مفرداً، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالاً مفرداً فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد برداً فوصفهما بالجمع، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له.
وعن ابن عباس رضي الله


الصفحة التالية
Icon