تعالى:
﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الجهلة الذين يحللون ويحرمون من عند أنفسهم ﴿لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً﴾ أي: طعاماً محرّماً مما حرمتموه.
فائدة: في ما أوحي إليّ في مقطوعة من ما في الرسم ﴿على طاعم﴾ أيّ طاعم كان من ذكر أو أنثى ﴿يطعمه﴾ أي: يتناوله أكلاً أو شرباً أو داء أو غير ذلك ﴿إلا أن يكون﴾ أي: ذلك الطعام ﴿ميتة﴾ وهي كل ما زالت حياته بغير ذكاة شرعية، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة تكون بالتأنيث والباقون بالتذكير ورفع ميتة ابن عامر على أنّ كان هي التامة، وعلى هذه القراءة يكون قوله تعالى: ﴿أو دماً مسفوحاً﴾ عطفاً على أن مع ما في حيزه أي: إلا وجود ميتة أو دماً مسفوحاً أي: مصبوباً كالدم في العروق لا كالكبد والطحال ﴿أو لحم خنزير فإنه﴾ أي: الخنزير ﴿رجس﴾ أي: نجس فالضمير يعود على المضاف إليه لأنّ اللحم دخل في قوله ﴿ميتة﴾ وحينئذٍ ففي الآية دلالة على نجاسة الخنزير وهو حي فلحمه وكذا سائر أجزائه بطريق الأولى ثم إني رأيت البقاعي في تفسيره جرى على ذلك وقوله تعالى: ﴿أو فسقاً أهل لغير الله به﴾ أي: ذبح على اسم غيره عطف على لحم خنزير وما بينهما اعتراض للتعليل.
تنبيه: ظاهر الآية أنّ المحرمات محصورة في هذه الأربعة وأنه لا يحرم شيء من سائر المطعومات والحيوانات غيرها وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما ذبح على اسم غير الله تعالى، ويروى ذلك عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهم لأنه ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرّمات إلا بوحي وثبت أنّ الله تعالى نص في هذه الآية على هذه الأربعة أشياء وقال تعالى في (البقرة، ١٧٣)
﴿إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله﴾ وإنما تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة للآية المكية في الحكم ولكن الذي ذهب إليه جمهور العلماء أنّ التحريم لا يختص بهذه فقط بل المحرّم ما كان بنص كتاب أو سنة، وقد وردت السنة بتحريم أشياء غير ذلك منها تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطيور وورد النهي عن أكل الهر وأكل ثمنه ويحرم أيضاً كل ما أمر بقتله كالحدأة والغراب الأبقع أو نهي عن قتله كالهدهد والخفاش وما لا نص فيه بتحريم أو تحليل أو بما يدل على أحدهما كالأمر بالقتل والنهي عنه إن استطابته عرب ذوو يسار وطباع سليمة حال رفاهية حل وإن استخبثوه فلا يحل فإن اختلفوا في استطابته اتبع الأكثر فإن استووا فقريش لأنهم قطب العرب وفيهم الفتوّة فإن اختلفت أو لم تحكم بشيء اعتبر الأشبه به من الحيوانات فإن استوى الشبهان أو لم يوجد ما يشبهه فحلال لهذه الآية وما جهل اسمه عمل بتسمية العرب له مما هو حلال أو حرام.
ولما حرّم الله تعالى هذه الأشياء أباح أكلها عند الاضطرار بقوله تعالى: ﴿فمن اضطر﴾ أي: حصل له جوع خشي منه التلف ﴿غير باغ﴾ أي: على مضطر مثله ﴿ولا عاد﴾ أي: ولا متجاوز قدر الضرورة، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بالكسر ﴿فإنّ ربك غفور﴾ لا يؤاخذه بالأكل ﴿رحيم﴾ به حيث أباح له ذلك.
﴿وعلى الذين هادوا﴾ أي: اليهود واليهود علم على قوم موسى عليه الصلاة والسلام وسموا به اشتقاقاً من هادوا أي: مالوا إما عن عبادة العجل وإما عن دين موسى عليه السلام أو من هاد إذا رجع من خير إلى شر أو من شر إلى خير لكثرة انتقالهم عن مذاهبهم وقيل: لأنهم يتهوّدون أي:
تعالى:
﴿وما تلك بيمينك﴾ مبتدأ استفهامية وتلك خبره وبيمينك حال من معنى الإشارة وقوله تعالى: ﴿يا موسى﴾ تكرير لأنه ذكره قبل في قوله تعالى: ﴿نودي يا موسى﴾ وبعد في مواضع كألقها يا موسى لزيادة الاستئناس والتنبيه.
فإن قيل: السؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة في ذلك؟
أجيب: بأنّ في ذلك فوائد؛ الأولى: توقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره هل تعرف هذا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ويريد أن يضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. الثانية: أن يقرّر عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها. الثالثة: أنه تعالى لما أراه تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه كلام نفسه ثم أورد عليه التكليف الشاق وذكر له المعاد وختم ذلك بالتهديد العظيم فتحير موسى عليه السلام ودهش فقيل له وما تلك بيمينك يا موسى؟ وتكلم معه بكلام البشر إزالةً لتلك الدهشة والحيرة.
فإن قيل: هذا خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد ﷺ أجيب: بالمنع فقد خاطبه في قوله تعالى: ﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ (النجم، ١٠)
إلا أنّ الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه إلى الخلق والذي ذكره مع محمد ﷺ كان سراً لم يؤهل له أحد من الخلق وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمة محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مراراً على ما قاله ﷺ «المصلي يناجي ربه والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله تعالى: ﴿سلام قولاً من رب رحيم﴾ (يس، ٥٨)
تنبيه: قوله تعالى: وما تلك إشارة إلى العصا وقوله تعالى بيمينك إشارة إلى اليد وفي هذا نكت ذكرها الرازي رحمه الله تعالى الأولى: أنه تعالى لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزة قاهرة وبرهاناً ساطعاً ونقله من حدّ الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً صار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة إلى قلب العبد فأيّ عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى السعادة بالطاعة ونور المعرفة. ثانيها: أنّ بالنظر الأول الواحد صار الجماد ثعباناً فبلغ سحر النفس الأمارة بالسوء. ثالثها: أن العصا كانت في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركته انقلبت ثعباناً فبلع سحر السحرة فأيّ عجب لو صار القلب ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليد موسى عليه السلام هذه المنزلة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب أصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية.
ولما سأل تعالى موسى عليه السلام عن ذلك أجاب بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال أوّلها:
﴿قال هي عصاي﴾ وقد تم الجواب بذلك إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. ثانيها: قوله: ﴿أتوكأ﴾ أي: أعتمد ﴿عليها﴾ إذا مشيت وإذا عييت وإذا وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. ثالثها: قوله: ﴿وأهش﴾ أي: أخبط ورق الشجر ﴿بها﴾ ليسقط ﴿على غنمي﴾ لتأكله فبدأ عليه السلام أولاً بمصالح نفسه في قوله أتوكأ عليها ثم بمصالح رعيته في قوله: أهش بها على غنمي وكذلك في القيامة يقول نفسي نفسي ومحمد ﷺ لم يشتغل في
تقنطوا بكسر النون بعد القاف والباقون بفتحها ﴿إن الله﴾ أي: المتفضل على عباده المؤمنين ﴿يغفر الذنوب﴾ لمن تاب من الشرك ﴿جميعاً﴾ لمن يشاء كما قال تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء: ٤٨)
وأما الكافر إذا أسلم فإن الله تعالى لا يؤاخذه بما وقع من كفره قال تعالى: ﴿قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف﴾ (الأنفال: ٣٨)
تنبيه: في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى: ﴿من رحمة الله﴾ ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى: ﴿إن الله﴾ ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى ﴿إنه هو﴾ أي: وحده ﴿الغفور﴾ أي: البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب ﴿الرحيم﴾ أي: المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي ﷺ وقالوا: إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة» فنزلت هذه الآية. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: «أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي ﷺ يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله، فأنزل الله سبحانه وتعالى ﴿إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً﴾ (مريم: ٦٠)
فقال وحشي: هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ الآية قال: نعم هذا. فجاء فأسلم، فقال المسلمون: هذا له خاصة قال: بل للمسلمين عامة»
.
وروي عن ابن عمر قال: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.
وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال: يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ وعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي» وروى الطبراني: «أنه ﷺ قال: ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي: بهذه الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: إلاً من أشرك ثلاث مرات».
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل، فإذا راهب فسأله فقال: هل لي توبة فقال: لا فقتله وجعل يسأل
عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً أو مضطجعين تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتفعت إليهم، وقال البراء: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى.
ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى: ﴿ويطاف﴾ أي: من أي طائف كان لكثرة الخدم ﴿عليهم بآنية﴾ جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي: يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى: ﴿من فضة﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي: الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى: يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى: ﴿سرابيل تقيكم الحرّ﴾ (النحل: ٨١)
أي: والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر.
ولما جمع الآنية خص فقال تعالى ﴿وأكواب﴾ جمع كوب، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة ﴿كانت﴾ أي: تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها ﴿قوارير﴾ أي: كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق، جمع قارورة وهي ما أقرّ فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل: هو خاص بالزجاج.
ولما كان رأس آية وكان التعبير بالقوارير ربما أفهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال تعالى معيد للفظ أوّل الآية الثانية تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: ﴿قوارير من فضة﴾ أي: قد جمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه، وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقال الكلبي: إن الله تعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإنّ أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون منها. وقرأ نافع وشعبة والكسائي وصلاً بالتنوين فيهما ووافقهم ابن كثير في الأول دون الثاني، والباقون بغير تنوين، وأما الوقف فمن نون وقف بالألف، ومن لم ينون وقف بغير ألف إلا هشاماً، فإنه وقف على الثاني بالألف وفي الوصل لم ينون فالقراءات حينئذ على خمس مراتب: إحداها: تنوينهما معاً، والوقف عليهما بالألف. الثانية: مقابله وهو عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف، الثالثة: عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف، الرابعة: تنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها. الخامسة: عدم تنويهما معاً والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها. وأما من نوّنهما فلما مرّ في تنوين سلاسل؛ لأنهما صيغة منتهى الجموع ذاك على مفاعل وذا على مفاعيل، والوقف بالألف التي هي بدل التنوين، فأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف فظاهر، وأما من نوّن الأول دون الثاني فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي، ولم يناسب بين الثاني وبين الأوّل، والوجه في وقفه
على الأوّل بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر، وأما من لم ينوّنهما ووقف على الأوّل بألف وعلى الثاني بدونها فلأنّ الأوّل رأس آية فناسب بينه وبين رؤوس الأي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني لأنه ليس برأس آية، وأما من لم ينوّنهما ووقف عليهما بالألف، فإنه ناسب بين الأول


الصفحة التالية
Icon