قبلهم بالتخفيف وكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب، وقال الحسين بن الفضل: لو ذكروا هذه المقالة تعظيماً وإجلالاً لله تعالى ومعرفة منهم لما عابهم بذلك لأنّ الله تعالى قال: ﴿ولو شاء الله ما أشركوا﴾ (الأنعام، ١٠٧)
وقال تعالى: ﴿وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله﴾ (الأنعام، ١١١)
والمؤمنون يقولون ذلك ولكنّ المشركين قالوا تكذيباً وتحريضاً وجدلاً من غير معرفة بالله وبما يقولون نظيره قوله تعالى: ﴿وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم﴾ (الزخرف، ٢٠)
قال الله تعالى: ﴿ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون﴾ (الزخرف، ٢٠)
وقد علم من ذلك أن أمر الله تعالى بمعزل عن مشيئته وإرادته فإن مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته فإنّ مشيئته لا تكون عذراً لأحد.
﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين القائلين ما ذكر ﴿هل عندكم﴾ أيها الجهلة ﴿من علم﴾ أي: من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم من تحريم ما حرمتم وإنّ الله راض بشرككم ﴿فتخرجوه لنا﴾ أي: فتنظروه لنا وتبينوه لنا كما بينا لكم خطأكم ﴿إن﴾ أي: ما ﴿تتبعون﴾ في ذلك ﴿إلا الظن﴾ أي: فيما أنتم عليه ولا علم عندكم ﴿وإن أنتم إلا تخرصون﴾ أي: وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على الله تعالى الباطل.
﴿قل﴾ لهم حين عجزوا عن إظهار الحجة ﴿فلله الحجة البالغة﴾ أي: التامة على خلقه بإنزال الكتب وإرسال الرسل، قال الربيع بن أنس: لا حجة لأحد عصى الله وأشرك به على الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده ﴿فلو شاء﴾ الله هدايتكم ﴿لهداكم أجمعين﴾ ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء هداية بعض وضلال بعض آخر فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه لا يسئل عما يفعل.
﴿قل﴾ لهم ﴿هلم﴾ أي: أحضروا ﴿شهداءكم الذين يشهدون﴾ لكم ﴿إنّ الله حرّم هذا﴾ أي: ما تقدّم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أنّ الله أمرهم به، وهلم اسم فعل لا يتصرّف يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وعند بني تميم فعل مؤنث ويثنى ويجمع ﴿فإن شهدوا﴾ أي: فإن تجرؤوا على الشهادة كذباً ﴿فلا تشهد معهم﴾ أي: فاتركهم ولا تسلم لهم فإنهم على ضلال وليست شهادتهم مستندة إلا إلى الهوى ﴿ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا﴾ إنما وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وإن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقاً بها ﴿و﴾ لا تتبع أهواء ﴿الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ التي هي دار الجزاء فإنهم لو جوّزوها ما اجترؤوا على ذلك ﴿وهم بربهم يعدلون﴾ أي: يشركون فيجعلون له عديلاً.
﴿قل﴾ لهم ﴿تعالوا﴾ أي: أقبلوا علي ﴿أتل﴾ أي: أقرأ ﴿ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً﴾ وذلك أنهم سألوا وقالوا: أي الذي حرم الله؟ فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ذلك.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: ﴿حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به﴾ والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك؟ أجيب: بأنّ موضع أن رفع أي: هو أن لا تشركوا، وقيل: نصب واختلفوا في وجهه فقيل: معناه حرّم عليكم أن تشركوا ولا صلة كقوله تعالى: ﴿ما منعك أن لا تسجد﴾ (الأعراف، ١٢)
أي: ما منعك أن تسجد، وقيل: تم الكلام عند قوله: ﴿حرّم ربكم﴾ ثم قال: ﴿عليكم أن لا تشركوا به شيئاً﴾ على وجه الإغراء، وقال الزجاج: يجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى أي: أتل عليكم تحريم الشرك وجائز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا ﴿وبالوالدين إحساناً﴾ أي: فأحسنوا بهم إحساناً، وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة
كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفاً عظيماً فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً وهرب ثم نودي يا موسى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف
﴿قال﴾ تعالى له ﴿خذها﴾ أي: بيمينك ﴿ولا تخف﴾ وكان على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان فلما قال تعالى له خذها لف طرف المدرعة على يده فأمره الله أن يكشف يده، وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له الملك أرأيت إن أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً قال: لا ولكنني ضعيف ومن ضعف خلقت وكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها كما قال تعالى: ﴿سنعيدها سيرتها الأولى﴾ وقد أظهر الله تعالى في هذه العصا معجزات لموسى عليه السلام منها انقلاب العصا حية ومنها وضع يده في فمها من غير ضرر ومنها انقلابها خشبة مع الأمارات التي تقدّمت
تنبيه: في نصب سيرتها أوجه:
أحدها: أن تكون منصوبة على الظرف أي: في سيرتها أي: طريقتها:
ثانيها: على البدل من هاء سنعيدها بدل اشتمال لأنّ السيرة الصفة أي: سنعيدها صفتها وشكلها.
ثالثها: على إسقاط الخافض أي: إلى سيرتها وقيل غير ذلك. فإن قيل: لما نودي يا موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلماذا خاف؟ أجيب عن ذلك بأوجه أحدها: أنّ ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط وهذا معلوم بدلائل العقول ثانيها: إنما خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم عليه السلام منها. ثالثها: أنّ مجرد قوله ولا تخف لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى: ﴿ولا تطع الكافرين﴾ (الأحزاب، ١)
لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله: ﴿فلما رآها تهتز كأنها جانّ ولى مدبراً﴾ (النمل، ١٠)
يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين أفضل الخلق محمد ﷺ فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار وقوله تعالى:
﴿واضمم يدك﴾ أي: اليمنى ﴿إلى جناحك﴾ أي: جنبك الأيسر تحت العضد في الإبط ﴿تخرج بيضاء﴾ أي: نيرة مشرقة تضيء كشعاع الشمس تعشى البصر لا بدّ فيه من حذف والتقدير واضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف من الأوّل والثاني وأبقى مقابليهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج وبيضاء حال من فاعل تخرج وقوله تعالى: ﴿من غير سوء﴾ متعلق بتخرج وروي عن ابن عباس إلى جناحك إلى صدرك والأّول أولى كما قال الرازي لأنه يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جانباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما أي: يميلهما عند الطيران وجناحا الإنسان عضداه فعضداه يشبهان جناحي الطير، ولأنه قال: تخرج بيضاء ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله تخرج معنى والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة. والبرص أبغض شيء إلى العرب ولهم عنه نفرة عظيمة وإسماعهم لاسمه مجاجة فكان جديراً بأن يكنى عنه ولا ترى أحسن ولا أظرف ولا أخف للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه.
يروى أنّ موسى عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى
وقال سعيد بن جبير: في حق الله وقيل: ضيعت في ذات الله، وقيل: معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى والعرب تسمي الجانب جنباً، قال في «الكشاف» : هذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ألا ترى إلى قول الشاعر:
*إن السماحة والمروءة والندى | في قبة ضربت على ابن الحشرج* |
﴿أو تقول﴾ أي: تلك النفس المفرطة ﴿لو أن الله﴾ أي: الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ﴿هداني﴾ أي: لبيان الطريق ﴿لكنت من المتقين﴾ أي: الذين لا يقدمون على فعل إلا ما يدلهم عليه دليل. الثالث من الكلمات ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه:
﴿أو تقول﴾ أي: تلك النفس المفرطة ﴿حين ترى العذاب﴾ أي: الذي واجهها عياناً ﴿لو أن﴾ أي: يا ليت ﴿لي كرة﴾ أي: رجعة إلى دار العمل ﴿فأكون﴾ أي: يتسبب عن رجوعي إليها أن أكون ﴿من المحسنين﴾ أي: العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن.
تنبيه: في نصب فأكون وجهان أحدهما: عطفه على كرة فإنها مصدر فعطف مصدر مؤول على مصدر مصرح به كقولها:
*للبس عباءة وتقر عيني | أحب إلي من لبس الشفوف* |
﴿بلى قد جاءتك أياتي﴾ أي: القرآن وهي سبب الهداية ﴿فكذبت بها﴾ أي: قلت ليست من عند الله ﴿واستكبرت﴾ أي: تكبرت عن الإيمان بها ﴿وكنت من الكافرين﴾.
فإن قيل: هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله: ﴿لو أن الله هداني﴾ (الزمر: ٥٧)
ولم يفصل بينهما؟ أجيب: بأنه لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب، فإن قيل: كيف صح أن تقع بلى جواباً لغير منفي؟ أجيب: بأن قوله ﴿لو أن الله هداني﴾ بمعنى ما هديت.
﴿ويوم القيامة﴾
إبراهيم} (الأنبياء: ٦٠)
وعن يعقوب: ﴿إنّ له اباً شيخاً كبيراً﴾ (يوسف: ٧٨)
. وقالوا: وأقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام، ويعطى في الجنة قدر الدنيا عشر مرّات. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها.
ثم وصف تعالى تلك الغلمان بقوله تعالى: ﴿مخلدون﴾ أي: قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير علة ولا ارتفاع عن ذلك الحدّ مع أنهم مزينون بالحلي وهو الحلق والأساور والقرط والملابس الحسنة.
﴿إذا رأيتهم﴾ أي: يا أعلى الخلق وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي الشامل لكل راء في أي حالة رأيتهم فيها ﴿حسبتهم﴾ أي: من بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في الخدمة ﴿لؤلؤاً منثوراً﴾ أي: من سلكه أو من صدفه وهو أحسن منه في غير ذلك، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم: أطفال المؤمنين لأنهم ماتوا على الفطرة. وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله تعالى إيمانه من أولاد الكفار، وتكون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لنا في الدنيا سبياً وخداماً. وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم. ويؤيد هذا قوله ﷺ في ابنه إبراهيم عليه السلام: «إن له لظئراً تتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على انتقال شأنه فيما هنالك وكتنقله في الأحوال في الدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك. وقرأ السوسي وشعبة بإبدال الهمزة الأولى الساكنة وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.
ولما ذكر المخدوم والخدم ذكر المكان بقوله تعالى: ﴿وإذا رأيت﴾ أي: وجدت منك الرؤية ﴿ثم﴾ أي: هناك في أي مكان كان في الجنة، وأي شيء كان فيها. وقوله تعالى ﴿رأيت﴾ جواب إذا أي: رأيت ﴿نعيماً﴾ أي: ليس فيه كدر بوجه من الوجوه ولا يقدر على وصفه واصف. ﴿وملكاً كبيراً﴾ أي: لم يخطر على باله مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة.
قال سفيان الثوري: بلغنا أن المُلْك الكبير تسليم الملائكة عليهم. وقيل: كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك، وقال الحكيم الترمذي: هو ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً، قالوا له: كن فيكون. وفي الخبر: إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة أي: وما فيهم دنيء الذي في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه سبحانه وتعالى كل يوم. أي: قدر يوم من أيام الدنيا مرّتين.
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ذكر لباسهم بقوله تعالى: ﴿عاليهم﴾ أي: فوقهم ﴿ثياب سندس﴾ هو ما رق من الحرير ﴿خضر وإستبرق﴾ وهو ما غلظ من الديباج فهو البطائن، والسندس الظهائر، وقرأ نافع وحمزة ﴿عاليهم﴾ بسكون الياء بعد اللام وكسر الهاء والباقون بفتح الياء وضم الهاء؛ لأنّ الياء لما سكنت كسرت الهاء ولما تحرّكت ضمت الهاء، فأما قراءة نافع وحمزة ففيها أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً، وثياب مبتدأ مؤخر.
وأمّا قراءة الباقين ففيها أيضاً أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً وثياب مبتدأ مؤخراً. كأنه قال: فوقهم ثياب. قال أبو البقاء: لأنّ عاليهم بمعنى فوقهم، والضمير المتصل به للمطوف عليهم أو للخادم والمخدوم جميعاً وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب. وقرأ نافع وحفص خضر وإستبرق برفعهما، وقرأ حمزة والكسائي بخفضهما. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر وجرّ إستبرق، وقرأ ابن كثير وشعبة بجرّ خضر ورفع إستبرق.
وحاصل القراءات