وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهر النفس عن الآثام ﴿قال﴾ تعالى: ﴿إني أعلم ما لا تعلمون﴾ من المصلحة في استخلاف آدم وأنّ ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم، وقيل: إني أعلم أنّ فيكم من يعصيني وهو إبليس وجنوده، وقيل: إني أعلم أنهم مذنبون وأنا أغفر لهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الباء، والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ.
﴿وعلم آدم الأسماء﴾ أي أسماء المسميات ﴿كلها﴾ حتى القصعة والمغرفة، وقيل: علمه اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وقيل: صيغة كل شيء. قال أهل التأويل: إنّ الله عز وجل علم آدم جميع اللغات ثم كل واحد من أولاده بلغة فتفرّقوا في البلدان واختص كل فرقة منهم بلغة وذلك إمّا بخلق علم ضروري بها فيه أو ألقى في قلبه علمها أو بإرسال ملك أو بخطاب الله له أو بخلق الأصوات في الأجسام المسميات، والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالباً، ولذلك يقال: علمته فلم يتعلم. وآدم اسم أعجمي كسائر الأنبياء إلا صالحاً وشعيباً ولوطاً ومحمداً بل قيل: إنّ آدم أيضاً عربي وعلى هذا فاشتقاقه من الأدمة بضم الهمزة وسكون الدال بمعنى السمرة، أو الأدمة بفتح الهمزة والدال بمعنى الأسوة أي: القدوة أو من أديم الأرض أي: ظاهر وجهها.
روى الحاكم وصححه أنه ﷺ قال: «إنّ الله قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها» ـ وهو بفتح الحاء المهملة ما غلظ من الأرض وصلب أي: وعجنت بالمياه المختلفة ـ فخلق منها آدم ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً فلذلك يأتي بنوه مختلفين في الألوان والأخلاق والهيئات، وأمّا على الأوّل فلا اشتقاق له لأنّ ذلك إنما يأتي في الأسماء العربية والأعجمي لا اشتقاق له، وكنيته أبو محمد وأبو البشر والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباعدة مستعدّاً لإدراك أنواع المدركات والمعقولات والمحسوسات والمخيلات والموهومات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها. وقرأ ورش في الهمزة من آدم بالمدّ والتوسط والقصر حيث جاء، وقوله تعالى: ﴿ثم عرضهم على الملائكة﴾ الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمناً في قوله تعالى: ﴿وعلم آدم الأسماء﴾ إذ التقدير أسماء المسميات كما مرّ تقريره فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه اللام في الأسماء كقوله تعالى: ﴿واشتعل الرأس شيباً﴾ (مريم، ٤) لأنّ العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الأسماء إذ العرض لا يصح فيها لأنها من المسموعات والعرض يختص بالمحسوسات بالعين تقول: عرضت الجند عرض العين إذا مررتهم عليك ونظرت ما حالهم.
فإن قيل: لم قال عرضهم ولم يقل عرضها؟ أجيب: بأنّ الأسماء إذا جمعت جمع من يعقل ومن لا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور، وقال مقاتل: خلق الله كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة، والكناية راجعة إلى الشخوص فلذلك قال: ﴿عرضهم على الملائكة﴾ ﴿فقال﴾ لهم سبحانه وتعالى تبكيتاً لهم وتنبيهاً على عجزهم عن أمر الخلافة ﴿أنبئوني﴾ أي: أخبروني ﴿بأسماء هؤلاء﴾ المسميات ﴿إن كنتم صادقين﴾ أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل وأعلم منه وذلك أنّ الملائكة قالوا لما قال: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ : ليخلق ربنا
روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب عصاه على صخرة، فانشقت وخرج منها صخرة ثانية، ثم ضرب عصاه عليها فانشقت وخرج منها صخرة ثالثة، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الله تعالى الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع أنّ الدودة كانت تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. فإن قيل: إن كلمة على للوجوب فيدل على أنّ إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله تعالى. أجيب: بأنه تعالى إنما أتى بذلك تحقيقاً لوصوله بحسب الوعد والفضل والإحسان وحملاً على التوكل فيه. وفي هذه الآية دليل على أنّ الرزق إلى كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد والله تعالى لا يخل به، ثم قد نرى أنّ إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره، فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون الله تعالى قد أخل بالواجب، وذلك محال فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقاً ﴿ويعلم﴾ تعالى ﴿مستقرّها﴾ قال ابن عباس: هو المكان الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلاً ونهاراً ﴿ومستودعها﴾ هو الذي تدفن فيه إذا ماتت. وقال عبد الله بن مسعود: المستقر: أرحام الأمهات، والمستودع: المكان الذي تموت فيه. وقال عطاء: المستقر: أرحام الأمهات، والمستودع: أصلاب الآباء. وقيل:
الجنة أو النار والمستودع القبر. لقوله تعالى في صفة الجنة والنار: حسنت مستقرّا، وساءت مستقرّا ومقاماً، ولا مانع أن يفسر ذلك بهذا كله ﴿كل﴾ أي: كل واحدة من الدواب ورزقها ومستقرّها ومستودعها ﴿في كتاب﴾ أي: ذكرها مثبت في اللوح المحفوظ ﴿مبين﴾ أي: بيّن كما قال تعالى ﴿ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين﴾ (الأنعام، ٥٩). ولما أثبت تعالى بالدليل المتقدّم كونه عالماً بالمعلومات أثبت كونه تعالى قادراً على كل المقدورات بقوله تعالى:
﴿
وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام﴾ أي: من أيام الدنيا أوّلها الأحد وآخرها الجمعة، وتقدّم الكلام على تفسير ذلك في سورة الأعراف ﴿وكان عرشه على الماء﴾ قال كعب: خلق ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصمّ: ومعنى قوله تعالى: ﴿وكان عرشه على الماء﴾ كقولهم السماء على الأرض، وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر. وقال حمزة: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم، فكتب به ما هو خالقه، وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله تعالى ومجده ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه، ففي هذا دلالة على كمال قدرته تعالى؛ لأنّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء، وقد أمسكه الله تعالى من غير دعامة تحته ولا علامة فوقه. وقوله تعالى ﴿ليبلوكم﴾ متعلق بخلق، أي: خلقها وما فيها منافع لكم ومصالح ليختبركم وهو أعلم بكم منكم ﴿أيكم أحسن عملاً﴾ أي: أطوع لله وأورع عن محارم الله، وهذا القيام الحجة عليهم. وقد مرّ أمثال ذلك، ولما بين تعالى أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم، وهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنّ الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة
فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: ﴿وقالا﴾ شكراً عليه ودلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع ﴿الحمد﴾ أي: الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي: الذي لا كفء له ﴿الذي فضلنا﴾ أي: بما آتانا من النبوّة والكتاب وتسخير الشياطين والجنّ والإنس وغير ذلك ﴿على كثير من عباده المؤمنين﴾ أي: ممن لم يؤت علماً أو مثل علمهما، وفي ذلك تحريض للعالم أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير، فلا يتكبر ولا يفتخر ويشكر الله تعالى، وينفع به المسلمين كما نفعه الله تعالى به، ثم إنه تعالى أشار إلى فضل سليمان بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه بقوله تعالى:
﴿وورث سليمان داود﴾ أباه عليهما السلام دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابناً فأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليمان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى ﴿وقال﴾ تحدّثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرّفه الله تعالى به ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير ﴿يا أيها الناس علمنا﴾ أي: أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ﴿منطق الطير﴾ أي: فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت، فسمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس.
روي عن كعب الأحبار أنه قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة فقال: أتدرون ما تقول قالوا: لا قال: فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس فقال أتدرون ما يقول: قالوا: لا قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم، وصاح صرد فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاح طيطوى فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال فإنه يقول: كل حيّ ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا قال فإنه يقول: قدّموا خيراً تجدوه، وهدرت حمامة فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال: أتدرون ما يقول قالوا: لا، قال: فإنه يقول سبحان ربي الأعلى، قال والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان رب القدّوس، ويقول أيضاً سبحان ربي المذكور بكلّ لسان، والباز يقول سبحان ربي وبحمده، وعن مكحول قال: صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا قال: فإنه يقول: الرحمن على العرش استوى.
وروي عن فرقد السنحيّ قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا الله ونبيه أعلم قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء: وهو بالفتح والمدّ التراب، وقال أبو عبيد: هو الدروس، وفي حديث صفوان: «إذا دخلت بيتي فأكلت رغيفاً وشربت عليه فعلى الدنيا العفاء»، وروي أنّ جماعة من اليهود قالوا لابن عباس إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمناً وصدّقنا، قال: اسألوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً، قالوا: أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والديك في صعيقه
﴿ليس على الأعمى﴾ أي: في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبيّ ﷺ أو مع غيره من أئمة الهدى ﴿حرج﴾ أي: ميل بثقل الإثم لأنه لا يمكنه الإقدام على العدوّ والطلب ولا يمكنه الاحتراز منه ولا الهرب ﴿ولا على الأعرج﴾ وإن كان نقصه أدنى من نقص الأعمى ﴿حرج﴾ وفي معنى الأعرج الزمن المقعد والأقطع ﴿ولا على المريض﴾ أي: بأي مرض كان يمنعه ﴿حرج﴾ وفي معناه صاحب السعال الشديد والطحال الكبير والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة، ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر كتمريض المريض الذي ليس له من يقوم مقامه عليه.
تنبيه: جعل تعالى كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم وقدم الأعمى على الأعرج لأنّ عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج وقدم الأعرج على المريض لأنّ عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قرب.
﴿ومن يطع الله﴾ أي: المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً. المانع منها من يشاء وإن كان قوياً ﴿ورسوله﴾ من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه بأيّ طاعة كانت ﴿يدخله﴾ أي: الله الملك الأعظم جزاء له ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ أي: من أيّ موضع أردت أجريت نهراً ﴿ومن يتولّ﴾ أي يعرض عن الطاعة ويستمّر على الكفر والنفاق ﴿يعذبه﴾ أي على توليه في الدارين أو إحداهما ﴿عذاباً أليماً﴾ أي مؤلماً وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون فيهما والباقون بالياء التحتية ولما بين تعالى حال المخلفين بعد قوله تعالى ﴿إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله﴾ عاد إلى حال بيان المبايعين. بقوله تعالى:
﴿لقد رضي الله﴾ أي: الذي له الجلال والكمال ﴿عن المؤمنين﴾ أي: الراسخين في الإيمان أي فعل بهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدّر لهم من الثواب وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعدّ لهم في الآخرة فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة وقوله تعالى ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿يبايعونك﴾ منصوب برضى واللام في قوله تعالى ﴿تحت الشجرة﴾ للعهد الذهني وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبيّ ﷺ نازلاً به في الحديبية ولأجل هذا الرضا سميت بيعة الرضوان وقصتها «أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام حين نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة فهموا به فمنعه الأحابيش واحدها حبوش وهو الفوج من قبائل شتى فلما رجع دعا عمر ليبعثه فقال: إني أخافهم على نفسي لما أعرف من عدواتي إياهم وما بمكة عدوي يمنعني ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته فوقروه وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال ما أفعل قبل أن يطوف به رسول الله ﷺ فاحتبس عندهم فأرجف أنهم قتلوه فقال رسول الله ﷺ لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة» روى البغوي من طريق الثعلبي «أنّ النبيّ ﷺ قال لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وقال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ﷺ تحت