عن آياتنا} ولا يتوبون ﴿سوء العذاب﴾ أي: شدّته ﴿بما كانوا يصدفون﴾ أي: بسبب إعراضهم.
﴿هل ينظرون﴾ أي: ما ينظر هؤلاء المكذبون ﴿إلا أن تأتيهم الملائكة﴾ أي: لقبض أرواحهم أو بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث ﴿أو يأتي ربك﴾ أي: أمره بالعذاب ﴿أو يأتي بعض آيات﴾ أي: علامات ﴿ربك﴾ الدالة على الساعة كطلوع الشمس من مغربها، وعن حذيفة والبراء بن عازب: «كنا نتذاكر الساعة إذ طلع علينا رسول الله ﷺ فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا: كنا نتذاكر الساعة، فقال: «إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وناراً تخرج من عدن» ﴿يوم يأتي بعض آيات ربك﴾ وهو طلوع الشمس من مغربها كما في حديث الصحيحين ﴿لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل﴾ صفة نفساً ﴿أو﴾ نفساً لم تكن ﴿كسبت في إيمانها خيراً﴾ أي: طاعة لا ينفعها توبتها قال ﷺ «يدا الله مبسوطتان لمسيء الليل ليتوب بالنهار ولمسيء النهار ليتوب بالليل حتى تطلع الشمس من مغربها» وقال ﷺ «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» وقال ﷺ «إنّ الله جعل بالمغرب باباً مسيرة عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله» وقال ﷺ «ثلاث إذا أخرجن فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها».
﴿قل انتظروا﴾ بعض هذه الأشياء ﴿إنا منتظرون﴾ ذلك وحينئذٍ لنا الفوز عليكم ولكم الويل ﴿إنّ الذين فرّقوا دينهم﴾ أي: بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وافترقوا فيه قال ﷺ «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة» رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححاه وفي بعض الروايات قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» وقرأ حمزة بتخفيف الراء وألف قبلها والباقون بتشديدها ولا ألف ﴿وكانوا شيعاً﴾ أي: فرقاً مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة كأهل الكتاب فإنهم ابتدعوا في دينهم بدعاً أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضاً فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض وكالمجوس الذين فرّقوا دينهم باعتقاد أن إلا له إثنان النور والظلمة وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم قسماً يتوسل به في زعمهم إليه، وقيل: هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة.
روي أنه ﷺ قال لعائشة: «يا عائشة إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أهل البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمّة» وعن العرباض بن سارية قال: «صلى بنا رسول الله ﷺ الصبح فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنّ من يعيش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كل محدثة بدعة وكل
ثالثها: أنّ في مناظرة آدم عليه السلام مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: ﴿يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض﴾ (البقرة: ٣٣)
ولما رأى موسى عليه السلام أنّ التعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الودّ وزوال التهمة قربة عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى طلب المعاونة على ذلك بقوله:
﴿واجعل لي وزيراً﴾ أي: معيناً على الرسالة ولذلك قال عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله﴾ (آل عمران، ٥٢)
وقال محمد ﷺ «إنّ لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر» وقال ﷺ «إذا أراد الله تعالى بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شرّاً كفه» وقال أنوشروان: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ولا أكرم الدواب عن السوط ولا أعلم الملوك عن الوزير. ولما كان التعاون على الدين منقبة عظيمة أراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله فقال: ﴿من أهلي﴾ أي: أقاربي وقوله:
﴿هارون﴾ قال الجلال المحلي: مفعول ثان وقوله: ﴿أخي﴾ عطف بيان وذكر غيره أعاريب غير ذلك لا حاجة لنا بذكرها.
تنبيه: الوزير مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه، أو من الوزر لأنّ الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره، أو من الموازرة وهي المعاونة. قال الرازي: وكان هارون مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقول موسى: ﴿هو أفصح مني لساناً﴾ (القصص، ٣٤)
ومنها الرفق لقول هارون: ﴿يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي﴾ (طه، ٩٤)
أنه كان أكبر سناً منه وقال ابن عادل كان أكبر سناً من موسى بأربع سنين وكان أفصح لساناً منه وأجمل وأوسم أبيض اللون وكان موس آدم اللون أقنى جعدا.
ولما طلب موسى عليه السلام من الله تعالى أن يجعل هارون وزيراً له طلب منه أن يشد أزراره بقوله: ﴿اشدد به أزري﴾ أي: أقوّي به ظهري
﴿وأشركه في أمري﴾ أي: في النبوّة والرسالة، وقرأ ابن عامر بسكون الياء من أخي وهمزة مفتوحة من أشدد وهو على مرتبته في المدّ وهمزة مضمومة من أشركه وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وأشركه بهمزة مفتوحة والباقون بسكون الياء من أخي وهمزة وصل من أشدد وفتح الهمزة من أشركه ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال:
﴿كي نسبحك﴾ تسبيحاً ﴿كثيراً﴾ قال الكلبي: نصلي لك كثيراً نحمدك ونثني عليك والتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عما لا يليق به.
﴿ونذكرك﴾ ذكراً ﴿كثيراً﴾ أي: نصفك بصفات الكمال والجلال والكبرياء وجوّز أبو البقاء أن يكون كثيراً نعتاً لزمان محذوف أي: زماناً كثيراً.
﴿إنك كنت بنا بصيراً﴾ أي: عالماً بأنّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك أو بصيراً بأنّ الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوّة إليها أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو الأصلح لنا. ولما سأل موسى عليه السلام ربه تلك الأمور المتقدّمة وكان من المعلوم أنّ قيامه بما كلف به لا يتم إلا بإجابته إليها لا جرم
﴿قال﴾ الله تعالى: ﴿قد أوتيت سؤلك يا موسى﴾ أي: أعطيت جميع ما سألته منا عليك لما فيه من وجوه المصالح
﴿ولقد مننا عليك مرّة أخرى﴾ أي: أنعمنا عليك في وقت آخر وفي ذلك تنبيه على أمور أحدها: كأنه تعالى قال: إني
والأخريان للجواب.
ولما كان التقدير لا تشرك بنا عطف عليه قوله تعالى:
﴿بل الله﴾ أي: المتصف بصفات الكمال وحده ﴿فاعبد﴾ أي: مخلصاً له العبادة ﴿وكن من الشاكرين﴾ أي: العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق أجمعين.
ولما حكى الله تعالى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول أن يعبد الله ولا يعبد سواه، وبين أنهم لو عرفوا الله تعالى حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية قال:
﴿وما قدروا الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿حق قدره﴾ أي: ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره مع أنهم لو استغرقوا الزمان كله في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال عظمته بقوله تعالى: ﴿والأرض جميعاً قبضته﴾ وهو مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي: ما عظموه حق عظمته والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة كقوله تعالى: ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ (البقرة: ٢٨)
أي: كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا، وجميعاً حال وهي دالة على أن المراد بالأرض: الأرضون لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، وقدم الأرض على السموات لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها.
ولما كان في هذه الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال تعالى: ﴿يوم القيامة﴾ ولا قبضة هناك لا حقيقة ولا مجازاً وكذا الطي واليمين وإنما هو تمثيل وتخييل لتمام القدرة.
ولما كانوا يعلمون أن السموات سبع متطابقة بما يشاهدونه من سير النجوم جمع ليكون مع جميعاً كالتصريح في جمع الأرض أيضاً في قوله تعالى: ﴿والسموات مطويات﴾ أي: مجموعات ﴿بيمينه﴾ قال الإمام الرازي: وههنا سؤالات؛ الأول: أن العرش أعظم من السموات السبع والأرضين السبع ثم إنه تعالى قال في صفة العرش ﴿ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية﴾ (الحاقة: ١٧)، فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسموات والأرض؟ وأجاب: بأن مراتب التعظيم كثيرة.
فأولها: تقرير الله بكونه قادراً على هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
السؤال الثاني: قوله تعالى: ﴿والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه﴾ شرح حال لا تحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم معترفون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم، وإن كان الخطاب مع المكذبين بالنبوة فهم ينكرون قوله تعالى: ﴿والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة﴾ فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟.
وأجاب عنه: بأن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأرضين من وجوه العمارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإفنائها يوم القيامة، وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق، فإنه
لما فرضت الصلاة على النبيّ ﷺ نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأنّ على عنقه.
وقال مقاتل: أراد بالآثم عتبة بن ربيعة وبالكفور الوليد بن المغيرة، وكانا أتيا النبيّ ﷺ يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوّة عرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهما رسول الله ﷺ عشر آيات من أوّل حم السجدة إلى قوله تعالى: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ (فصلت: ١٣)
فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.
فإن قيل: كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله: ﴿آثماً أو كفوراً﴾ أجيب: بأنّ معناه: ولا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه؛ لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث.
ثم قال فإن قيل: معنى أو: ولا تطع أحدهما فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن إطاعتهما جميعاً؟ أجيب: بأنه لو قال: ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما أنهى عن طاعتهما جميعاً كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف علم أنه نهى عن ضربهما بطريق الأولى.
فإن قيل: إنه ﷺ ما كان يطيع أحداً منهم فما فائدة هذا النهي؟ أجيب: بأنّ المقصود بيان أنّ الناس محتاجون إلى التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى النساء وأنّ الواحد لو استغنى عن توفيق الله تعالى وإرشاده لكان أحق الناس به هو رسول الله ﷺ المعصوم دائماً أبداً، ومتى ظهر لك ذلك عرفت أنّ كل مسلم لا بدّ له من الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه أن يصونه عن الشهوات.
﴿واذكر﴾ أي: في الصلاة ﴿اسم ربك﴾ أي: المحسن إليك بكل جميل ﴿بكرة﴾ أي: الفجر ﴿وأصيلاً﴾ أي: الظهر والعصر.
﴿ومن الليل﴾ أي: بعضه والباقي للراحة بالنوم ﴿فاسجد له﴾ أي: المغرب والعشاء ﴿وسبحه ليلاً طويلاً﴾ أي: صل التطوّع فيه كما تقدّم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه أو اذكره بلسانك بكرة عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جميعاً وأصيلاً أي: عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين إشارة إلى دوام الذكر وذكر اسمه لازم لذكره والذي عليه أكثر المفسرين. الأوّل قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة لأنّ الصلاة أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أركان لسانية وحركات وسكنات على هيئات مخصوصة من عادتها أن لا تفعل إلا بين يدي الملوك.
ولما خاطب رسول الله ﷺ بالتعظيم والأمر والنهي عدل سبحانه إلى شرح أحوال الكفار والمتمردّين فقال تعالى: ﴿إنّ هؤلاء﴾ أي: الذين يغفلون عن الله من الكفار والمتمردّين ﴿يحبون﴾ أي: محبة تجدّد عندهم زيادتها في كل وقت ﴿العاجلة﴾ لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور ومعدن