والمعنوية فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوآت ولو كان متقياً وليس عليه إلا خريقة ثوب تواري عورته كان في غاية الجمال والكمال وأنشدوا في المعنى:

*إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى عريت وإن وارى القميص قميص*
وقال قتادة: لباس التقوى هو الإيمان، وقال الحسن: هو الحياء لأنه يبعث على التقوى، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: هو السمت الحسن، وقال ابن الزبير: هو خشية الله تعالى والعمل الصالح يشمل هذه الأمور كلها، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب السين عطفاً على لباساً والباقون بالرفع على الابتداء والخبر ذلك خير ﴿ذلك﴾ أي: إنزال اللباس ﴿من آيات الله﴾ الدالة على فضله ورحمته ﴿لعلهم يذكرون﴾ فيعرفون نعمة الله فيتعظون ويتورعون عن القبائح وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة إظهاراً وإشعاراً بأنّ الستر باب عظيم من أبواب التقوى.
﴿يا بني آدم﴾ أي: الذي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي ثم أسكنته جنتي وأنزلته منها إلى دار محنتي ﴿لا يفتننكم﴾ أي: يضلنكم ﴿الشيطان﴾ أي: البعيد المحترق بالذنوب أي: لا تتبعوه فتفتتنوا فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار ﴿كما أخرج أبويكم من الجنة﴾ بفتنته بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها وقد علمتم أنّ الدفع أسهل من الرفع وقوله تعالى: ﴿ينزع عنهما لباسهما﴾ حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأنّ نزع لباسهما بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقال ابن عباس وقتادة: كان لباسهما الظفر فلما أصابا المصيبة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه: كان نوراً يحول بينهما وبين النظر وتقدّم بعض ذلك، وقال مجاهد: كان لباسهما التقوى، وقيل: كان لباسهما من ثياب الجنة قال بعض المفسرين: وهذا أقرب لأنّ إطلاق اللباس يطلق عليه وإنّ النزع لا يكون إلا بعد اللبس، اه. وتقدّم الكلام على قوله: ﴿ليريهما سوآتهما إنه﴾ أي: الشيطان ﴿يراكم هو وقبيله﴾ أي: جنوده وقال ابن عباس: قبيله ولده، وقال أبو زيد: نسله وإنما أعاد الكناية في قوله: هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضها بعضاً ﴿من حيث لا ترونهم﴾ أي: للطافة أجسامهم أو عدم ألوانهم، وعن ابن عباس أنه قال: إنّ الله تعالى جعلهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم، وجعل صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى كما قال تعالى: ﴿الذي يوسوس في صدور الناس﴾ (الناس، ٥)
فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وعن مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى، وعن ابن دينار أن عدوّاً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى ومنع الرؤية إذا كانوا على خلقتهم الأصلية وإلا فقد يرون وأعند تشكلهم بصورة حيوان أو طير أو غير ذلك فإنّ للجنّ قوّة التشكل وهذا أمر شائع ذائع، وقد رؤي إبليس على صورة شيخ وتمثل لكثير من العباد على صورة حية بل قال شيخنا القاضي زكريا: والحق جواز رؤيتهم حتى من تلك الجهة
ذلك اليوم.
وبنى قوله: ﴿وأن يحشروا﴾ للمفعول؛ لأن القصد الجمع لا كونه من معين ﴿الناس﴾ أي: يجتمعوا ﴿ضحى﴾ أي: وقت الضحوة، فيكون أظهر لما يعمل، وأجلى، فلا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، ويكثر التحديث بذلك في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
﴿فتولى﴾ أي: أعرض ﴿فرعون﴾ عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله تعالى ﴿فجمع كيده﴾ أي: مكره وحيلته وخداعه الذي دبره على موسى عليه السلام بجميع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة حشرهم من كل فج، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناءً بالسحر، وأمهر ما كانوا وأكثر ﴿ثم أتى﴾ للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها، ولما تشوق السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك استأنف تعالى الخبر عنه بقوله تعالى:
﴿قال لهم﴾ أي: لأهل الكيد والعناد، وهم السحرة وغيرهم ﴿موسى﴾ حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم ﴿ويلكم﴾ يا أيها الناس الذين خلقكم الله تعالى لعبادته ﴿لا تفتروا﴾ أي: لا تتعمدوا ﴿على الله كذباً﴾ بإشراك أحد معه ﴿فيسحتكم﴾ قال مقاتل: يهلككم، وقال قتادة: يستأصلكم ﴿بعذاب﴾ من عنده، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء، وكسر الحاء من الإسحات، وهو لغة نجد وتميم، والباقون بفتحهما، والسحت لغة الحجاز ﴿وقد خاب من افترى﴾ كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك له، فلم ينفعه.
﴿فتنازعوا﴾ أي: تجاذب السحرة ﴿أمرهم بينهم﴾ لما سمعوا هذا الكلام علماً منهم أنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جمع جنوده وأتباعه، ثم يسلم منه إلا من الله تعالى معه ﴿وأسروَّا النجوى﴾ قال الكلبي: قالوا سراً: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقال محمد بن إسحاق: لما قال لهم موسى: لا تفتروا على الله كذباً، قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر، وبالغوا في إخفاء ذلك، فإن النجوى الإسرار لئلا يظهر فرعون وأتباعه على ذلك، فكأنه قيل: ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل:
﴿قالوا﴾ أي السحرة: ﴿إن هذان لساحران﴾ أي: موسى وهارون، وقرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من إن، وشدَّدها الباقون، وقرأ أبو عمرو بالياء بعد الذال، والباقون بالألف على لغة من يجعل ألف المثنى لازماً في كل حال، قال أبو حيان: وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب، وبعض كنانة وخثعم وزيد وبني النضر وبني الجهيم ومراد وعذرة، وقال شاعرهم:
تزوّد مني بين أذناه ضربة
يريد أذنيه، وقال آخر:
*إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها*
وقيل: تقدير الآية أنه هذان، فحذف الهاء، وذهب جماعة إلى أن حرف أن ههنا بمعنى نعم، أي: نعم هذان، روي أن أعرابياً سأل ابن الزبير شيئاً، فحرمه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إنَّ وصاحبها، أي: نعم، وشدَّد ابن كثير النون، فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام، وتزويره خوفاً من غلبتهما، وتثبيطاً للناس عن اتباع موسى وهارون ﴿يريدان﴾ أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها ﴿أن يخرجاكم﴾ أيها الناس ﴿من أرضكم﴾ هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفاً
في العرش كحلقة في فلاة، وقال مجاهد: بين السماء السابعة والعرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة. وقيل: إن العرش قبلة أهل السماء كما أن الكعبة قبلة أهل الأرض، وأما من حول العرش فهم الكروبيون وهم سادات الملائكة. قال وهب بن منبه: إن حول
العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم على أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا: سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأحلمك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر، الخلق كلهم لك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى، ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلثمائة عام، وما بين شحمتي أذنيه إلى عاتقه أربعمائة عام، وقد احتجب الله عز وجل عن الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور وسبعين حجاباً من در أبيض وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من برد، وما لا يعلم علمه إلا الله تعالى، فسبحان من له هذا الملك العظيم.
ولما كان تعالى لا يحيط به علماً أحد من خلقه أشار إلى أنهم مع قربهم كغيرهم لا فرق في ذلك بينهم وبين من في الأرض السفلى بقوله تعالى: ﴿ويؤمنون به﴾ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب فهم يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له، فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: ﴿ويؤمنون به﴾ ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ أجيب: بأن فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في غير موضع من كتابه بالصلاح، لذلك وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى: ﴿ثم كان من الذين آمنوا﴾ فأبان بذلك فضل الإيمان ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف وكان أقرب ما يتقرب به إلى الملك لتقربه إلى أهل وده نبه سبحانه بقوله تعالى: ﴿ويستغفرون﴾ أي: يطلبون محو الذنوب عيناً وأثراً ﴿للذين آمنوا﴾ أي: أوقعوا هذه الحقيقة فهم يستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم، وفي ذلك تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعث على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ولا بين سماوي وأرضي قط، ولكن لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض قال تعالى: ﴿ويستغفرون لمن في الأرض﴾ (الشورى: ٥)
واستغفارهم بأن يقولوا ﴿ربنا﴾ أي: أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره فهو معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل يستغفرون أو خبر بعد خبر ﴿وسعت كل شيء رحمة وعلماً﴾ أي: وسعت رحمتك كل شيء وعلمك كل شيء، فأزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم كأنَّ ذاته رحمة وعلم واسعان
محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى: ﴿وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً﴾ (الأنبياء: ٣٢)
﴿وجعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا ﴿سراجاً﴾ أي: منيراً متلألئاً ﴿وهاجاً﴾ أي: وقاداً وهي الشمس.
﴿وأنزلنا﴾ أي: بما لنا من كمال الأوصاف ﴿من المعصرات﴾ أي: السحاب إذا أعصرت أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع أي: حان أن يجز، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.
وعن الحسن وقتادة: هي السماوات، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السموات عصرن. وقيل: من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل: الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه. ﴿ماء ثجاجاً﴾ أي: منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث: «أفضل الحج العج والثج» أي: رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجاً يسيل غرباً، يعني: يثج الكلام ثجاً في خطبته.
﴿لنخرج﴾ أي: بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب ﴿به﴾ أي: بذلك الماء ﴿حباً﴾ أي: نجماً ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز ﴿ونباتاً﴾ أي: ما يعتلف به كالتبن والحشيش، كما قال تعالى: ﴿كلوا وارعوا أنعامكم﴾ (طه: ٥٤)
﴿والحب ذو العصف والريحان﴾ (الرحمن: ١٢)
﴿وجنات﴾ أي: بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره ﴿ألفافاً﴾ أي: ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف.
وقيل: هو جمع الجمع، يقال: جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل: لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: الواحد لف. قال صحاب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي:
*جنة لف وعيش مغدق... وندامى كلهم بيض زهر*
وقال الزمخشري: ولو قيل: هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً.
﴿إن يوم الفصل﴾ أي: بين الخلائق ﴿كان﴾ أي: في علم الله تعالى وفي حكمه كوناً لا بدّ منه ﴿ميقاتاً﴾ أي: وقتاً للثواب والعقاب، أو وقتاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
وقوله تعالى: ﴿يوم ينفخ في الصور﴾ أي: القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له، والنافخ إسرافيل عليه السلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك ﴿فتأتون﴾ أي: بعد القيام من القبور إلى الموقف ﴿أفواجاً﴾ أي: جماعات مختلفة.
وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله ﷺ فقال: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكياً، وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي، بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
ثم فسر هؤلاء بقوله: فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني: النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا، واما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين


الصفحة التالية
Icon