أي: بسيما أهل النار ﴿قالوا﴾ أي: أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ﴿ما أغنى عنكم جمعكم﴾ أي: ما كنتم تجمعون من الأموال في الدنيا أو كثرتكم واجتماعكم فيها ﴿وما كنتم تستكبرون﴾ أي: وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً، قال الكلبيّ: ينادونهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزؤون بهم مثل سلمان الفارسيّ وخبيب وصهيب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار:
﴿أهؤلاء﴾ لفظ استفهام أي: أهؤلاء الضعفاء ﴿الذين أقسمتم﴾ أي: حلفتم بالله ﴿لا ينالهم الله برحمة﴾ أي: لا يدخلون الجنة، وقد قيل لهم: ﴿ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون﴾ وقيل: أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون أنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة الذين حبسوا أهل الأعراف: ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وهذا ظاهر على الأقوال الأول، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر تنوين رحمة في الوصل وابن ذكوان بوجهين الضم والكسر والباقون بالضم.
﴿ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء﴾ أي: صبوه وهو دليل على أنّ الجنة فوق النار ﴿أو مما رزقكم الله﴾ أي: من سائر الأشربة ليلاً ثم الإفاضة لأنّ الإفاضة ملائمة للماء وسائر المائعات فحملت الإفاضة على إفاضة جميع المائعات أو من سائر المشروب والمأكول بتضمين أفيضوا ألقوا كقوله:
*علفتها تبناً وماء بارداً | حتى غدت همالة عيناها* |
*حرام على عينيّ أن تطعم الكرى*
وقيل: لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب وعذبهم الله في الآخرة بشدّة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا من طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأنّ الله تعالى حرّم طعام الجنة وشرابها على الكافرين ثم وصف الله تعالى الكافرين بقوله:
﴿الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً﴾ وهو ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية، وقيل: كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم وهزؤوا به، واللهو هو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف له واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به ﴿وغرّتهم الحياة الدنيا﴾ أي: وخدعهم عاجل ما هم فيه من رغد العيش والدعة وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسوله ومن الأخذ بنصيبهم في الآخرة حتى أتتهم المنية وهم على ذلك والغرّة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال، وقيل: الجاه ونيل الشهوات فإذا حصل له ذلك صار محجوباً عن الدين وطلب الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال: ﴿فاليوم﴾ أي: يوم القيامة ﴿ننساهم﴾ أي: نتركهم في النار ونعرض
وخلف السبعين، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال تعالى له:
أي: لمجيء ميعاد أخذ التوراة ﴿يا موسى﴾
﴿قال﴾ مجيباً لربه تعالى: ﴿هم أولاء﴾ أي: بالقرب مني يأتون ﴿على أثري﴾ أي: ماشين على آثار مشي قبل أن ينطمس، وما تقدمتهم إلا بخطاً يسيرة لا يعتد بها عادة، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم على بعض ﴿وعجلت إليك رب لترضى﴾ أي: لتزداد عني رضاً، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك.
تنبيه: في الآية سؤالات:
الأول: قوله تعالى: وما أعجلك استفهام، وهو على الله تعالى وأجيب عنه: بأنه كان في صورة الاستفهام، ولا مانع منه.
الثاني: أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يكون ممنوعاً من ذلك التقدم، أو لم يكن، فإن كان الأول كان التقدم معصية، وإن لم يكن فلا إنكار، وأجيب عنه: بأنه عليه السلام لعله ما وجد نصاً في ذلك، فاجتهد، فأخطأ في اجتهاده، فاستوجب العتاب.
الثالث: قوله: وعجلت، والعجلة مذمومة، أجيب عنه بأنها ممدوحة في الدين قال تعالى: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم﴾ (آل عمران، ١٣٣)
الرابع: قوله لترضى يدل على أنه إنما فعل ذلك ليحصل الرضا، وإذا لم يكن راضياً عنه، وجب أن يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام، أجيب عنه: بأن المراد تحصيل دوام الرضا، أو زيادته كما مرَّ.
الخامس: قوله إليك يقتضي كون الله تعالى في جهة لأن إلى لانتهاء الغاية، وأجيب عنه: بأنا اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل، فالمراد مكان وعدك.
السادس: قوله تعالى: ما أعجلك عن قومك سؤال عن سبب العجلة، فكان جوابه اللائق به أن يقول: طلب زيادة رضاك، أو التشوق إلى كلامك، وأما قوله: هم أولاء على أثري، فغير منطبق عليه كما ترى؛ أجيب عنه بأن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين؛ أحدهما: إنكار نفس العجلة، والثاني: السؤال عن سببب التقدم، فأجاب عن السؤال عن العجلة؛ لأنها أهم، فقال: وعجلت إليك رب لترضى
﴿قال﴾ تعالى: ﴿فإنا﴾ أي: تسبب عن عجلتك عنهم أنا ﴿قد فتنا﴾ أي: ابتلينا ﴿قومك من بعدك﴾ أي: بعد فراقك لهم بعبادة العجل، وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، وما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفاً ﴿وأضلهم السامري﴾ باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، فأطاعه بعضهم، وامتنع بعضهم، والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لهم السامرة، وقيل: كان علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر، وقيل: كان من قوم يعبدون البقر جبران لبني إسرائيل، ولم يكن منهم، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقاً
﴿فرجع موسى﴾ لما أخبره ربه بذلك ﴿إلى قومه﴾ بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وأخذ التوراة ﴿غضبان﴾ عليهم ﴿أسفاً﴾ أي: حزينا بما فعلوا ﴿قال﴾ أي: لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم: ﴿يا قوم﴾ وأنكر عليهم بقوله: ﴿ألم يعدكم ربكم﴾ أي: الذي أحسن إليكم ﴿وعداً حسناً﴾ أي: بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم إلى غير ذلك من إكرامه، ولما جرت العادة بأنّ طول الزمان ناقض للعزائم مغير للعهود كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري:
*لا أنسينك طال الزمان بنا
... وكم حبيب تمادى عهده فنسى
قال لهم: ﴿أفطال عليكم العهد﴾ أي: زمن لطف الله تعالى بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما تغير أهل
كذبوا الأنبياء عليهم السلام قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿ولقد أرسلنا﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿موسى بآياتنا﴾ أي: الدالة على جلالنا ﴿وسلطان﴾ أي: أمر قاهر عظيم جداً لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه ﴿مبين﴾ أي: بين في نفسه يتبين لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول إلى أذاه مع ما له من القوة والسلطان.
﴿إلى فرعون﴾ أي: ملك مصر ﴿وهامان﴾ أي: وزيره ﴿وقارون﴾ أي: قريب موسى ﴿فقالوا﴾ أي: هؤلاء ومن معهم هو ﴿ساحر﴾ لعجزهم عن مقاهرته أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في النية، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلاً به لأنه لم يتب منه ثم وصفوه بقولهم: ﴿كذاب﴾ لخوفهم من تصديق الناس له.
﴿فلما جاءهم بالحق﴾ أي: بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً ﴿من عندنا﴾ على ما لنا من القهر فآمن معه طائفة من قومه ﴿قالوا﴾ أي: فرعون وأتباعه ﴿اقتلوا﴾ أي: قتلاً حقيقياً بإزالة الروح ﴿أبناء الذين آمنوا﴾ به أي: فكانوا ﴿معه﴾ أي: خصوهم بذلك واتركوا من عداهم فلعلهم يكذبونه ﴿واستحيوا نساءهم﴾ أي: اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن، قال قتادة: هذا غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث موسى عليه السلام أعاد القتل عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل لئلا ينشؤوا على دين موسى فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين فلهذا أمر بقتل الأبناء واستحياء نسائهم ﴿وما﴾ أي: والحال أنه ما ﴿كيد الكافرين﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف ﴿إلا في ضلال﴾ أي: مجانبة للسداد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أوليائه تعالى ما حفر أحد منهم لأحد منهم حفرة مكراً إلا أركسه الله تعالى فيها.
﴿وقال فرعون﴾ أي: أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله، وملأه ما رأى منه خوفاً دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً منه موهماً أن قومه هم الذين يردونه عنه وأنه لولا ذلك لقتله. ﴿ذروني﴾ أي: اتركوني على أي حالة كانت ﴿أقتل موسى﴾ وزاد في الإيهام للأغبياء والمناداة على نفسه عند البصراء بقوله: ﴿وليدع ربه﴾ أي: الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق، وقيل: كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى، وفي منعه من قتله وجوه؛ أولها: لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى عليه السلام صادقاً فيتحيل في منع فرعون من قتله، وثانيها: قال الحسن: إن أصحابه قالوا له: لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكن أن يغلب سحرنا فإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس ويقولون: إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه، وثالثها: أنهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب تلك الأقوام؛ لأن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من قبل ذلك الملك،
للبعث ﴿تلك﴾ أي: رجعتنا العجيبة إلى الحياة ﴿إذاً﴾ أي: إن صحت ﴿كرّة﴾ أي: رجعة ﴿خاسرة﴾ أي: ذات خسران أو خسار أصحابها، والمعنى: إن صحت فنحن إذاً خاسرون بتكذيبنا وهو استهزاء منهم. وعن الحسن رضي الله عنه أن خاسرة بمعنى كاذبة، أي: ليست كائنة.
قال الله تعالى: ﴿فإنما هي﴾ أي: الرادفة التي يتبعها البعث ﴿زجرة﴾ أي: صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف ﴿واحدة﴾ عبر بالزجرة لأنه أشدّ من النهي، لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً فكان كأنه بلسان قال عن تلك الصيحة: أيها الأجساد البالية انتهي عن الرقاد وقومي إلى الميعاد بما حكمنا به من المعاد، فقد انتهى زمن الحصاد، وآن أوان الاجتناء لما قدّم من الزاد، فيا خسارة من ليس له زاد.
﴿فإذا هم﴾ أي: فتسبب عن تلك النفخة وهي الثانية أن كل الخلائق ﴿بالساهرة﴾ أي: صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال بعض أهل اللغة: تراهم سموها ساهرة لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. قال سفيان رضي الله عنه: هي أرض الشام، وقال قتادة رضي الله عنه: هي جهنم.
فإن قيل: بم يتعلق ﴿فإنما هي زجرة واحدة﴾ ؟ أجيب: بأنه متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها ﴿فإنما هي زجرة واحدة﴾ يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله تعالى، فإنها سهلة هينة في قدرته تعالى.
وقال الزمخشري: الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لأنّ السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة أي: جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس:
*وساهرة يضحى السراب مجللاً | لأقطارها قد جبتها متلثما* |
ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه ﷺ بقوله تعالى:
﴿هل أتاك﴾ يا أشرف الخلق ﴿حديث موسى﴾ أي: أليس قد أتاك حديثه، فيسليك على تكذيب قومك ويهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود فلما أصرّ على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقناه وآله، ولم نبقِ منهم أحداً، وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث قيل: إنّ طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف فكيف بقومك الضعاف.
وقوله تعالى: ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿ناداه﴾ منصوب بحديث لا بأتاك ﴿ربه﴾ أي: المحسن إليه بالرسالة وغيرها ﴿بالواد المقدّس﴾ أي: المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوّة المفيضة للبركات. وقوله تعالى: ﴿طوى﴾ اسم الوادي وهو الذي طوي فيه الشرّ عن بني إسرائيل، ومن أراد الله تعالى من خلقه ونشر فيه