العرش} أي: استوى أمره وقال أهل السنة: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به ونكل فيه العلم إلى الله تعالى والمعنى أنّ له سبحانه وتعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزه عن الاستقرار والتمكن، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ (طه، ٥)
فأطرق رأسه ملياً وعلاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج.
وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة أمرّوها كما جاءت اقرؤها بلا كيف وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية والعرش في اللغة السرير، قال كعب: إنّ السموات في العرش كالقنديل معلقاً بين السماء والأرض، وقال الطائي: العرش ياقوتة حمراء، وشذ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك، وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوّز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى: ﴿وكان عرشه على الماء﴾ (هود، ٧)
أتراه كان الملك على الماء وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى ويحتج بقول الشاعر:

*قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق*
وقال آخر:
*هما استويا بفضلهما جميعاً على عرش الملوك بغير زور*
وهذا منكر عند أهل اللغة، قال ابن الأعرابيّ: لا يعرف استولى فلان على كذا إلا إذا كان بعيداً منه غير متمكن منه ثم تمكن منه والله تعالى لم يزل مستولياً على الأشياء، والبيتان قال ابن فارس اللغوي: لا يعرف قائلهما ولو صحا لا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم يكن مستولياً نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة، وقيل: هو ما علا فأظل ومنه عرش الكرم ﴿يغشي الليل النهار﴾ أي: يغطيه ولم يذكر عكسه، إما للعلم به وإما لأنّ اللفظ يحتملهما بأن يكون المعنى بأنه يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين ﴿يطلبه﴾ أي: يطلب كل منهما الآخر طلباً ﴿حثيثاً﴾ أي: سريعاً فهو صفة مصدر محذوف ويحتمل أن يكون حالاً من الفاعل بمعنى حاثاً أو المفعول بمعنى المحثوث ﴿والشمس والقمر والنجوم مسخرات﴾ أي: مذللات لما يراد منهنّ من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبر لهنّ ﴿بأمره﴾ أي: بقضائه وتصريفه.
وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر والباقون بالنصب عطفاً على السموات، ومسخرات منصوب بالكسرة ﴿ألا له الخلق﴾ جميعاً ﴿والأمر﴾ كله فإنه الموجد والمتصرّف في ذلك، وفي هذا ردّ على من يقول: إنّ الشمس والقمر والكواكب تخلق له الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه، واستخرج سفيان، بن عيينة من هذا أنّ كلام الله تعالى ليس بمخلوق فقال: إنّ الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر أي: إن جعل الأمر وهو كلامه من جملة ما خلقه فهو كفر لأنّ المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق ﴿تبارك الله رب العالمين﴾ أي: تعالى بالوحدانية وتعظم بالتفرّد في الربوبية، قال البيضاوي: وتحقيق الآية والله
إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون فقال: أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما في الحفرة وصار عجلاً، فهذا معنى قوله تعالى:
﴿فأخرج لهم عجلاً جسداً﴾ من ذلك الحلي المذاب به جوف ليس فيه روح ﴿له خوار﴾ أي: صوت يسمع؛ قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره، فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، وقيل: إنه صاغه، ووضع التراب بعد صوغه في فمه ﴿فقالوا﴾ : أي السامري: ومن افتتن به أول ما رأوه مشيرين إلى العجل ﴿هذا إلهكم وإله موسى فنسي﴾ أي: فنسيه موسى، وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري، أي: ترك ما كان عليه من الإيمان
﴿أفلا يرون﴾ أي: قالوا ذلك فتسبب عن قولهم علمهم عن روية ﴿أن﴾ أي: أنه ﴿لا يرجع إليهم قولاً﴾ والإله لا يكون أبكم ﴿ولا يملك لهم ضراً﴾ فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون، فيقولون ذلك خوفاً من ضرره ﴿ولا نفعاً﴾ فيقولون ذلك رجاءً له
﴿ولقد قال لهم هارون من قبل﴾ أي: قبل رجوع موسى مستعطفاً لهم ﴿يا قوم إنما فتنتم﴾ أي: وقع اختياركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه، وثباتكم عليه ﴿به﴾ أي: بهذا العجل في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة، وأكد لأجل إنكارهم، فقال: ﴿وإن ربكم﴾ أي: الذي أخرجكم من العدم، ورباكم بالإحسان ﴿الرحمن﴾ وحده الذي فضله عامّ ونعمه شاملة، فليس على بر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه تعالى قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده، ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وأرجوا إسباغها بطاعته ﴿فاتبعوني﴾ بغاية جهدكم في الرجوع إليه ﴿وأطيعوا أمري﴾ أي: في الثبات على الدين
﴿قالوا لن نبرح عليه﴾ أي: العجل ﴿عاكفين﴾ أي: مقيمين ﴿حتى يرجع إلينا موسى﴾ فدافعهم فهموا به، وكان معظمهم قد ضل فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكفار، فلا يفيد ذلك شيئاً مع أن موسى لم يأمره بجهاد من ضل، وإنما قال له: ﴿وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾، فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي.
تنبيه: إنما قال هارون ذلك شفقة على نفسه وعلى الخلق؛ أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه بقوله: ﴿اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ (الأعراف، ١٤٢)، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى، ولأمر موسى، وذلك لا يجوز. أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، ومائتي ألف من شرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وقال أنس قال رسول الله ﷺ «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين، فليس منهم» وعن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد» وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: «خرجت أريد النبي ﷺ فإذا أبو بكر وعمر عنده، فجاء صغير يبكي، فقال لعمر: ضم الصبي إليك، فإنه ضال، فأخذه عمر، وإذا أم الصبي تولول كاشفة عن رأسها جزعاً على ابنها، فقال النبي ﷺ أدرك المرأة، فنادها، فجاءت، وأخذت ولدها، وجعلت تبكي والصبي في حجرها، فالتفتت، فرأت النبي ﷺ فاستحيت، فقال
صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله قالوا: من هذا؟ قيل: هذا ابن أبي قحافة». قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وأكثر العلماء كان اسم الرجل حزقيل، وقال ابن إسحاق: جبريل، وقيل: حبيب.
ولما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع فرعون وشره على الاستعاذة بالله تعالى، بين أنه تعالى قبض له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه، وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال: ﴿أتقتلون رجلاً﴾ أي: هو عظيم في الرجال حساً ومعنى ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال: ﴿أن﴾ أي: لأجل أن ﴿يقول﴾ قولاً على سبيل الإنكار ﴿ربي﴾ أي: المربي والمحسن إلي ﴿الله﴾ أي: الجامع لصفات الكمال ﴿وقد﴾ أي: والحال أنه قد ﴿جاءكم بالبينات﴾ أي: الآيات الظاهرات من غير لبس ﴿من ربكم﴾ أي: الذي لا إحسان عندكم إلا منه ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال: ﴿وإن يك﴾ أي: هذا الرجل ﴿كاذباً فعليه﴾ أي: خاصة ﴿كذبه﴾ أي: كان وبال كذبه عليه وليس عليكم منه ضرر فاتركوه ﴿وإن يك صادقاً يصيبكم بعض الذي يعدكم﴾ أي: العذاب عاجلاً وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً، فإن قيل: لم قال ﴿بعض الذي يعدكم﴾ وهو نبي صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله؟ أجيب: بأنه إنما قال ذلك ليهضم موسى بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له، وهذا أولى من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل، وأنشد قول لبيد:
*تراك أمكنة إذا لم أرضها أو ترتبط بعض النفوس حمامها*
وأنشد أيضاً قول عمرو بن سهم:
*قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل*
وقال الآخر:
*إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا*
وقوله: ﴿إن الله﴾ أي: الذي له مجامع العظمة ﴿لا يهدي﴾ إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر ﴿من هو مسرف﴾ بإظهار الفساد وبتجاوز الحدود ﴿كذاب﴾ فيه احتمالان؛ أحدهما: أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليه السلام، والمعنى أن الله تعالى هدى موسى عليه السلام إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ومن هداه الله تعالى إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً، فدل على أن موسى عليه السلام ليس من المسرفين الكذابين، ثانيهما: أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى عليه السلام كذاب في ادعائه الإلهية والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره.
ولما استدل مؤمن آل فرعون على أنه لا يجوز قتل موسى عليه السلام، خوف فرعون وقومه ذلك العذاب الذي توعدهم به في قوله: ﴿يصيبكم بعض الذي يعدكم﴾ فقال:
﴿يا قوم﴾ وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال: ﴿لكم الملك﴾ ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله: ﴿اليوم﴾ وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله: ﴿ظاهرين﴾ أي: عالين على بني إسرائيل
أن كذب موسى عليه السلام ﴿وعصى﴾ الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقيق الأمر، وقيل: كذب بالقول وعصى بالتمرّد والتجبر.
﴿ثم أدبر﴾ أي: تولى وأعرض عن الإيمان بعد المهل والأناة إعراضاً عظيماً بالتمادي على أعظم ما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة، حال كونه ﴿يسعى﴾ أي: يعمل بالفساد في الأرض، أو أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى أي: يسرع في مشيته. قال الحسن رضي الله عنه: كان رجلاً طياشاً خفيفاً، وتولى عن موسى عليه السلام يسعى ويجتهد في مكايدته، أو أريد: ثم أقبل يسعى كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.
﴿فحشر﴾ أي: فتسبب عن إدباره أنه جمع السحرة للمعارضة وجنوده للقتال ﴿فنادى﴾ حينئذ بأعلى صوته. قال حمزة الكرماني: قال له موسى عليه السلام: إنّ ربي أرسلني إليك لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في النعيم والسرور، ثم تموت فتدخل الجنة فقال: حتى أستشير هامان فاستشاره، فقال: أتصير عبداً بعدما كنت رباً، فعند ذلك جمع بعث الشرط وجمع السحرة والجنود.
فلما اجتمعوا قام عدوّ الله على سريره ﴿فقال أنا ربكم الأعلى﴾ أي: لا رب فوقي، وقيل: أراد أنّ الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم، وقيل: أمر منادياً فنادى في الناس بذلك، وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
﴿فأخذه الله﴾ أي: أهلكه بالغرق الملك الأعظم الذي لا كفء له ﴿نكال﴾ أي: عقوبة ﴿الآخرة﴾ أي: هذه الكلمة وهي قوله ﴿أنا ربكم الأعلى﴾. ﴿والأولى﴾ وهي قوله: ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾ (القصص: ٣٨)
. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى: أمهله في الأولى ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه. وقال الحسن رضي الله عنه: ﴿نكال الآخرة والأولى﴾ هو أن أغرقه في الدنيا وعذبه في الآخرة. وعن قتادة رضي الله عنه: الآخرة هي قوله: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ والأولى تكذيبه لموسى عليه السلام.
ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى: ﴿إنّ في ذلك﴾ أي: الأمر العظيم الذي فعله فرعون والذي فعل به حين كذب وعصى ﴿لعبرة﴾ أي: لعظة ﴿لمن يخشى﴾ أي: لمن يخاف الله تعالى لأنّ الخشية أساس الخير كما مرّت الإشارة إليه.
ثم خاطب تعالى منكري البعث بقوله تعالى:
﴿أأنتم﴾ أي: أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً ﴿أشدّ خلقاً﴾ أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم ﴿أم السماء﴾ أي: فمن قدر على خلق السماء على عظمها من السعة والكبر والعلوّ والمنافع قدر على الإعادة، وهذا كقوله تعالى: ﴿لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس﴾ (غافر: ٥٧)، والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى: ﴿أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم﴾ (يس: ٨١)
ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، والباقون بتحقيقهما، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال. ﴿ {
وقوله تعالى: {بناها﴾
بيان لكيفية خلقه إياها فالوقف على السماء والابتداء بما بعدها وقوله تعالى: ﴿رفع سمكها﴾ جملة مفسرة لكيفية البناء، والسمك الارتفاع أي: جعل مقدارها في سمت العلوّ مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام ﴿فسوّاها﴾ أي: فعدلها مستوية ملساء ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها من قولك: سوّى فلان أمر فلان.
﴿وأغطش﴾ أي: أظلم ﴿ليلها﴾ أي:


الصفحة التالية
Icon