والسلام والصعود إلى السماء.n
روي أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهمّ إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بنيّ إسأل الله الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» وقيل: أراد به الاعتداء في الجهر، قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح، وعنه ﷺ «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ: ﴿إنه لا يحبّ المعتدين﴾.
﴿ولا تفسدوا في الأرض﴾ أي: بالشرك والمعاصي ﴿بعد إصلاحها﴾ أي: ببعث الرسل وشرع الأحكام، وقيل: لا تفسدوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وعلى هذا فمعنى قوله تعالى: ﴿بعد إصلاحها﴾ أي: بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب ﴿وادعوه خوفاً﴾ منه ومن عذابه ﴿وطمعاً﴾ أي: فيما عنده من مغفرته وثوابه، وقال ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل ﴿إنّ رحمت الله قريب من المحسنين﴾ أي: المطيعين، وفي ذلك ترجيح الطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة وتذكير قريب المخبر به عن رحمة لإضافتها إلى الله تعالى، وقال سعيد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ، وقيل: إنّ تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة، وقيل: ذكره للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره حيث يجب التأنيث في الأوّل فيقال فيه: فلانة قريبة مني ويجوز في الثاني فيقال: فلانة قريبة وقريب مني في المكان وكون الرحمة قريباً من المحسنين لأنّ الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينهم وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.
فائدة: رحمت تكتب بالتاء المجرورة فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء وأمالها الكسائي في الوقف، وقوله تعالى:
﴿وهو الذي يرسل الرياح﴾ عطف على ما قبله والمعنى: إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع ﴿نشراً بين يدي رحمته﴾ أي: متفرّقة قدام المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثراً. وقرأ عاصم بالباء الموحدة وسكون الشين أي مبشراً، وحمزة والكسائي بالنون مفتوحة وسكون الشين على أنه مصدر في موضع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان، وابن عامر بالنون مضمومة وسكون الشين تخفيفاً، والباقون بضم النون والشين جمع نشور بمعنى ناشر ﴿حتى إذا أقلت﴾ أي: حملت الرياح ﴿سحاباً ثقالاً﴾ أي: بالمطر يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً ﴿سقناه﴾ أي: السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ وفيه التفات عن الغيبة ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل على اللفظ على الوصف لقيل: ثقيلاً، والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، قال السدي: إن الله سبحانه وتعالى يرسل الرياح فتأتي
الحلي، فنبذتها، وكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع، ولا حملني عليه حامل غير التسويل.
تنبيه: كون المراد بالرسول جبريل عليه السلام هو ما عليه عامة المفسرين، وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس، واختلفوا في أنه كيف اختص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين الناس، فقال ابن عباس في رواية الكلبي: إنما عرفه لأنه رباه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولدت طرحت ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون، فتأخذ الملائكة الولدان ويربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامري ممن أخذه جبريل عليه السلام، وجعل كف نفسه في فيه، وارتضع منه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فلما رآه عرفه؛ قال ابن جريح: فعلى هذا قوله: بصرت بما لم يبصروا به يعني: رأيت ما لم يروه.
ومن فسر الإبصار بالعلم، فهو صحيح، ويكون المعنى: علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء؛ قال أبو مسلم ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، فههنا وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: إن فلاناً يقفوا أثر فلان، ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل، قال: بصرت بما لم يبصروا به؛ أي: عرفت أن الذي أنت عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول؛ أي: شيئاً من دينك، فقذفته؛ أي: طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا، أو بماذا يأمر الأمير، وأما ادعاؤه أن موسى رسول مع جحده وكفره.
فعلى مذهب من حكى الله فيه قوله: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قال الرازي: وهذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا أنه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه:
أحدها: أنَّ جبريل عليه السلام ليس معهود باسم الرسول، ولم يجرِ له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار، وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول، والإضمار خلاف الأصل.
وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، وكيف عرف أن تراب حافر فرسه له هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل هو الذي رباه فبعيد؛ لأن السامري إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى نبّي صادق، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ، فأنى ينفعه كون جبريل مر بباله حال الطفولية في حصول تلك المعرفة، ثم إن موسى عليه السلام لما سمع من السامري ما ذكر
﴿قال﴾ له ﴿فاذهب﴾ أي: فتسبب عن فعلك أن أقول لك: اذهب من بيننا، وحيث ذهبت ﴿فإن لك في الحياة﴾ أي: ما دمت حياً ﴿أن تقول﴾ لكل من
تجتمع في هذا اليوم فلا بد من تسميته بها كلها.
ولما كان عادة المتنادين الإقبال وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال تعالى مبدلاً أو مبيناً:
﴿يوم تولون﴾ أي: عن الموقف ﴿مدبرين﴾ قال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار وفروا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى أماكنهم فذلك قوله تعالى: ﴿والملك على إرجائها﴾ (الحاقة: ١٧)
وقوله تعالى: ﴿يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان﴾ (الرحمن: ٣٣)
وقال مجاهد: فارين من النار غير معجزين، وقيل: منصرفين عن الموقف إلى النار ثم أكد التهديد بقوله تعالى: ﴿مالكم من الله﴾ أي: الملك الجبار الذي لا يذل ﴿من عاصم﴾ أي: من فئة تحميكم وتنصركم وتمنعكم من عذابه.
ثم نبه على قوة ضلالهم وشدة جهالتهم فقال تعالى: ﴿ومن يضلل الله﴾ أي: الملك المحيط بكل شيء ﴿فما له من هاد﴾ أي: إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه.
تنبيه: في قراءة هاد ما تقدم في قوله: ﴿من واق﴾ (الرعد: ٣٤)
ولما قال لهم مؤمن آل فرعون: ﴿ومن يضلل الله فما له من هاد﴾ ذكر لهم مثالاً بقوله تعالى:
﴿ولقد جاءكم﴾ أي: جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد ومن أنهم على طبعهم لا سيما أن كانوا لم يفارقوا مساكنهم ﴿يوسف﴾ أي: نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام ﴿من قبل﴾ أي: قبل زمن موسى عليه السلام ﴿بالبينات﴾ أي: الآيات الظاهرات لا سيما في أمر يوم التناد ﴿فما زلتم﴾ أي: ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم ﴿في شك﴾ أي: محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن ﴿مما جاءكم به﴾ من التوحيد، وقال ابن عباس: من عبادة الله وحده لا شريك له فلم تنتفعوا البتة بتلك البينات ودل على تمادي شكهم بقوله تعالى: ﴿حتى إذا هلك﴾ فهو غاية أي: فما زلتم في شك حتى هلك ﴿قلتم لن يبعث الله﴾ أي: الذي له صفات الكمال ﴿من بعده﴾ أي: يوسف عليه السلام ﴿رسولاً﴾ أي: أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة، وهذا ليس إقراراً منهم برسالته بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته والتكذيب برسالة من بعده وقوله تعالى: ﴿كذلك﴾ خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر كذلك أو مثل هذا الضلال ﴿يضل الله﴾ أي: بما له من صفات القهر ﴿من هو مسرف﴾ أي: مشرك متغال في الأمور خارج عن الحدود ﴿مرتاب﴾ أي: شاك فيما تشهد به البينات بغلبة الوهم والانهماك في التقليد ثم بين تعالى ما لأجله بقوا في الشك والإسراف فقال سبحانه:
﴿الذين يجادلون﴾ وهو مبتدأ أي: يخاصمون خصاماً شديداً ﴿في آيات الله﴾ أي: المحيط بأوصاف الكمال لاسيما الآيات الدالة على يوم التناد فإنها أظهر الآيات، وكذا الآيات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل ﴿بغير سلطان﴾ أي: برهان ﴿أتاهم﴾ وقوله: ﴿كبر﴾ أي: جدالهم ﴿مقتاً﴾ خبر المبتدأ ويجوز في الذين أوجه أيضاً منها: أنه بدل من قوله تعالى: ﴿من هو مسرف﴾ وإنما جمع اعتباراً بمعنى من، ومنها: أن يكون بياناً له، ومنها: أن يكون صفة له وجمع على معنى من أيضاً، ومنها أن ينصب بإضمار أعني، وقال الزجاج قوله: ﴿الذين يجادلون﴾ تفسير لمسرف مرتاب يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي: في إبطالها بالتكذيب
حسيسها} (الأنبياء: ١٠٢)
وجواب إذا قوله: ﴿فأمّا من طغى﴾ أي: تجاوز الحد في العدوان حتى كفر بربه ﴿وآثر﴾ أي: قدّم واختار ﴿الحياة الدنيا﴾ أي: انهمك فيها ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس ﴿فإنّ الجحيم﴾ أي: النار الشديدة التوقد العظيمة ﴿هي﴾ أي: خاصة ﴿المأوى﴾ أي: مأواه كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك، وليست الألف واللام بدلاً عن الإضافة، ولكن لما علم أنّ الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة.
تنبيه: ﴿هي﴾ يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ.
﴿وأمّا من خاف مقام ربه﴾ أي: قيامه بين يديه لعلمه بالمبدأ وبالمعاد، وقال مجاهد: خوفه في الدنيا من الله تعالى عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرحمن: ٤٦)
﴿ونهى النفس﴾ أي: الأمارة بالسوء ﴿عن الهوى﴾ وهو اتباع الشهوات وزجرها عنها وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير.
﴿فإنّ الجنة﴾ أي: البستان لكل ما يشتهى ﴿هي﴾ أي: خاصة ﴿المأوى﴾ أي: ليس له سواها مأوى، وحاصل الجواب أنّ العاصي في النار والطائع في الجنة. قال الرازي: هذان الوصفان مضادان للوصفين المتقدّمين فقوله تعالى: ﴿فأما من خاف مقام ربه﴾ ضد قوله تعالى: ﴿فأما من طغى﴾. ﴿ونهى النفس عن الهوى﴾ ضد قوله تعالى: ﴿وآثر الحياة الدنيا﴾ فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات. وقال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق، فتعوّذوا بالله من ذلك الزمان.
تنبيه: اختلف في سبب نزول هاتين الآيتين، فقيل: نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه. روى الضحاك عن ابن عباس قال: ﴿أمّا من طغى﴾ فهو أخو مصعب بن عمير أسر يوم بدر وأخذته الأنصار فقالوا: من أنت، قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدّوه في الوثاق وأكرموه وبيتوه عندهم فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ شدّوا أسيركم، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى تبعث أمّه فداءه، ﴿وأمّا من خاف مقام ربه﴾ فمصعب بن عمير وقى رسول الله ﷺ بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، والمشاقص جمع مشقص وهو السهم العريض، فلما رآه ﷺ متشحطاً في دمه قال ﷺ «عند الله أحتسبك» وقال ﷺ لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعله من ذهب» وعن ابن عباس أيضاً: نزلت في رجلين أبي جهل بن هشام ومصعب بن عمير. وقال السدي: نزلت الآية الثانية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الكلبي: هما عامّتان.
ولما سمع المشركون أخبار القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل الطامّة الكبرى والصاخة والقارعة وسألوا رسول الله ﷺ استهزاءً متى تكون الساعة؟ نزل: ﴿يسئلونك﴾ يا أشرف الخلق ﴿عن الساعة﴾ أي: البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم به من أمرها ﴿أيان مرساها﴾ أي: في أي وقت إرساؤها، أي: إقامتها أرادوا متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكوّنها، أو أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه.
فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: ﴿فيم﴾ أي: في أي شيء ﴿أنت من ذكراها﴾ أي: من أن تذكر وقتها لهم وتعلهم به.
تنبيه: ﴿فيم﴾ خبر مقدّم و ﴿أنت﴾ مبتدأ مؤخر و ﴿من ذكراها﴾ متعلق بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنت من