لا بدّ لمدّعي النبوّة من معجزة تشهد له وتصدّقه وإلا لم تصح دعواه وكان متنبئاً لا نبياً غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا ﷺ فيه ومن معجزات شعيب عليه السلام الواردة في غير القرآن ما روي من محاربة عصا موسى التنين حين دفع إليه الغنم وولادة الغنم الدرع حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها والدرع بوزن الصرد وهي الغنم التي أوائلها سواد وأواخرها بياض ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزة لشعيب وهذا أولى من جعله كرامة لموسى أو إرهاصاً وهو علامة تظهر قبل النبوّة وقيل: أراد بالبينة الموعظة وهي قوله تعالى: ﴿فأوفو الكيل والميزان﴾ أي: أتموهما ﴿ولا تبخسوا﴾ أي: تنقصوا ﴿الناس أشياءهم﴾ فتطففوا الكيل والوزن يقال: بخس فلان الكيل والوزن إذا نقصه وطففه.
فإن قيل: هلا قال المكيال والميزان كما في سورة هود؟ أجيب: بأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال أو سمى ما يكال به بالكيل، أو أريد وأوفوا كيل المكيال ووزن الميزان وإنما قال ﴿أشياءهم﴾ لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه كما يفعل أمراء الجور ﴿ولا تفسدوا في الأرض﴾ أي: بالكفر والمعاصي ﴿بعدإصلاحها﴾ أي: بعدما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع ﴿ذلكم﴾ أي: الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان ووفاء الكيل والميزان وترك المظالم والبخس ﴿خير لكم﴾ أي: مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي: مصدّقين بما أقول لكم ومعنى ﴿خير لكم﴾ أي: في الإنسانية وحسن ما يتحدّث به وجمع المال لأنّ الناس ترغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والتسوية.
﴿ولا تقعدوا بكل صراط﴾ أي: طريق من طرف الدين ﴿توعدون﴾ أي: تمنعون الناس من الدخول فيه وتهدّدونهم على ذلك وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرقات فيخبرون من أتى عليهم أنّ شعيباً الذي تريدونه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم وقيل: كانوا يقطعون الطريق على الناس أو يقعدون لأخذ المكس منهم وقوله تعالى: ﴿وتصدّون﴾ أي: تصرفون الناس ﴿عن سبيل الله﴾ أي: دينه ﴿من آمن به﴾ دليل على أنّ المراد بالطريق سبيل الحق.
فإن قيل: صراط الحق واحد قال تعالى: ﴿وأنّ هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ (الأنعام، ١٥٣)
فكيف قيل: بكل صراط؟ أجيب: بأنّ صراط الحق وإن كان واحدا لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة وكانوا إذا رأوا أحد يشرع في شيء منها أوعدوه وصدوه ﴿وتبغونها﴾ أي: تطلبون الطريق ﴿عوجاً﴾ أي: تصفونها للناس بأنها سبيل معوجة عن الحق غير مستقيمة لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها أو يكون ذلك تهكماً بهم وإنهم يطلبون لها ما هو محال فإنّ طريق الحق لا يعوج ﴿واذكروا﴾ نعمة الله عليكم وآمنوا به ﴿إذ كنتم قليلاً فكثركم﴾ أي: كثر عددكم بعد القلة أو كثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف قيل: إنّ مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط عليهما السلام فولدت فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة والنماء فكثروا ونموا ﴿وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين﴾ قبلكم بتكذيبهم
فنزل قوله: ولا تمدن عينيك، وقال ﷺ «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم»، وقال أبو الدرداء: الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له، وعن الحسن لولا حمق الناس لخربت الدنيا، وعن عيسى ابن مريم عليه السلام: لا تتخذوا الدنيا داراً، فتتخذكم لها عبيداً. ولما أمر الله تعالى نبيه محمد ﷺ بتزكية النفس أمره بأن يأمر أهله بالصلاة بقوله عز وجل:
﴿وأمر أهلك بالصلاة﴾ أي: أمر أهل بيتك والتابعين لك من أمتك بالصلاة كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام يدعوهم إلى كل خير إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، وكان ﷺ بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي رضي الله عنهما كل صباح ويقول: الصلاة ﴿واصطبر﴾ أي: داوم ﴿عليها لا نسألك﴾ أي: نكلفك ﴿رزقاً﴾ لنفسك ولا لغيرك ﴿نحن نرزقك﴾ وغيرك كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد إن يطعمون إن الله هو الرازق ذو القوة المتين﴾ (الذاريات، ٥٨)
ففرِّغ بالك لأمور الآخرة، وفي معناه قول الناس: من كان في عمل الله كان الله في عمله.
وروي أنه ﷺ كان إذا أصاب أهله ضرٌّ أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلطان قرأ: ولا تمدن عينيك الآية، ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية: ﴿والعاقبة﴾ أي: الجميلة المحمودة ﴿للتقوى﴾ أي: لأهل التقوى قال ابن عباس: الذين صدقوك واتبعوك واتقوني، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: ﴿والعاقبة للمتقين﴾ (الأعراف، ١٢٨)، ولا معونة على الرزق وغيره بشيء يوازي الصلاة، فقد كان ﷺ إذا حزبه أمر أي بالباء الموحدة أي: إذا أحزنه فزع إلى الصلاة قال ثابت: وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال ﷺ «يقول الله تعالى: تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك»، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به هموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك» وعن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»، ثم إنه تعالى بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهاً بقوله تعالى:
﴿وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه﴾ فكأنه من لوازم قوله تعالى: ﴿فاصبر على مايقولون﴾ وهو قولهم لولا أي: هلا يأتينا بآية، وقال في موضع آخر: لو ما تأتينا بآية كما أرسل الأوّلون، ثم أجاب الله تعالى عن رسوله ﷺ بقوله: ﴿أولم تأتهم بينة﴾ أي: بيان ﴿ما في الصحف الأولى﴾ من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية المشتمل عليه القرآن أنباء الأمم الماضية وإهلاكهم
صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ الآية، فإن قيل: كيف قال تعالى: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾ وقد يدعو الإنسان كثيراً فلا يستجاب له؟ أجاب الكعبي: بأن الدعاء إنما يصح بشرط ومن دعا كذلك أستجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال: إن الله تعالى يفعل ما هو الأصلح بغير دعاء فما فائدة الدعاء وأجاب عنه بأن فيه الفزع والانقطاع إلى الله تعالى، وأجاب الرازي عن الأول: بأن كل من دعا الله تعالى وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأصدقائه واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله تعالى إلا باللسان وأما القلب فهو يعول
في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله تعالى، فهذا إنسان ما دعا ربه وأما إذا دعا في وقت لا يكون القلب فيه ملتفتاً إلى غير الله تعالى فالظاهر أنه يستجاب له، وقال القشيري: الدعاء مفتاح الإجابة وأسنانه لقمة الحلال، وقرأ ابن كثير وشعبة بضم ياء سيدخلون وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
ولما أمر الله تعالى بالدعاء فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القادر فقال تعالى مفتتحاً بالاسم الأعظم:
﴿الله﴾ أي: المحيط بصفات الكمال ﴿الذي جعل لكم﴾ لا غيره ﴿الليل﴾ أي: مظلماً ﴿لتسكنوا فيه﴾ راحة ظاهرة بالنوم الذي هو الموت الأصغر وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة ﴿والنهار مبصراً﴾ لتنظروا فيه باليقظة التي هي إحياء بالمعنى، فالآية من الاحتباك حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في نفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل للراحة لمن أرادها والعبادة لمن اعتمدها واستزادها، فإن قيل: هلا قيل بحسب رعاية النظم: هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال جعل لكم الليل ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك فما الحكمة فيه وفي تقديم ذكر الليل؟ أجيب عن الأول: بأن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات وأما النور واليقظة فأمور وجودية مقصودة بالذات، وقد بين الشيخ عبد القادر في دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفرق، وأجيب عن الثاني: بأن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود فلهذا السبب قال تعالى في سورة الأنعام ﴿وجعل الظلمات والنور﴾ (الأنعام: ١)
. ﴿إن الله﴾ أي: ذا الجلال والإكرام ﴿لذو فضل﴾ أي: عظيم جداً باختياره ﴿على الناس﴾ أي: كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع ﴿ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ الله فلا يؤمنون وينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً ويعلمون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: ﴿ولكن أكثر الناس﴾ ولم يقل ولكن أكثرهم ولا يكرر ذكر الناس؟ أجيب: بأن في هذا التكرار تخصيصاً لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله تعالى ولا يشكرونه كقوله تعالى: ﴿إن الإنسان لظلوم كفار﴾ (إبراهيم: ٣٤)
ولما بين تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال تعالى:
﴿ذلكم﴾ أي:
ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة ﴿أزلفت﴾ أي: قرّبت لأهلها ليدخلوها. قال الحسن: إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال عبد الله بن زيد: زينت والزلفى في كلام العرب القربة.
وقوله تعالى: ﴿علمت نفس﴾ جواب إذا أوّل السورة وما عطف عليها، أي: علمت كل نفس من النفوس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة، فالتنكير فيه مثله في تمرة خير من جرادة، ودلالة هذا السياق للهول على ذلك يوجب اليقين فيه ﴿ما﴾ أي: كل شيء ﴿أحضرت﴾ من خير وشر.
روي عن ابن عباس وعمر أنهما قرأا فلما بلغا ﴿علمت نفس ما أحضرت﴾ قالا: لهذا أجريت القصة. قال الرازي: ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود: أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ ﴿علمت نفس ما أحضرت﴾ قال: واقطع ظهراه.
﴿فلا أقسم﴾ لا مزيدة، أي: أقسم ﴿بالخنس الجوار الكنس﴾ هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون، أي: ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.
﴿والليل﴾ أي: الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها ﴿إذا عسعس﴾ قال البغوي: قال الحسن: أقبل بظلامه. وقال آخرون: أدبر، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر، ولم يبق منه إلا القليل.
﴿والصبح إذا تنفس﴾ أي: امتدّ حتى يصير نهاراً بيناً، يقال للنهار إذا زاد تنفس، ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف، وفي كيفية المجاز قولان: الأوّل: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل: تنفس الصبح. الثاني: أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن، فعبر عنه بالتنفس.
وقوله تعالى: ﴿إنه﴾ أي: القرآن ﴿لقول رسول كريم﴾ هو المقسم عليه، والمعنى: أنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى، أي: انتفت عنه وجوه المذامّ كلها، وثبت له وجوه المحامد كلها، وهو جبريل عليه السلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عز وجلّ.
﴿ذي قوّة﴾ أي: شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف.
﴿عند ذي العرش﴾ أي: الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: ﴿مكين﴾ أي: ذي مكانة متعلق به عند، أي: ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» وقيل: قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها.
﴿مطاع ثمّ﴾ أي: في السموات.