عليهم فقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ﴿ومن بعد ما جئتنا﴾ أي: بالرسالة.
فإن قيل: ظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر أجيب: عن هذا الإيهام بأنّ موسى عليه السلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدّة والمشقة فظنوا أنّ ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنّ المشقة قد زادت عليهم قالوا ذلك أي: فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه ﴿قال﴾ موسى عليه السلام مجيباً لهم: ﴿عسى ربكم أن يهلك عدوّكم﴾ أي: فرعون وقومه ﴿ويستخلفكم في الأرض﴾ أي: يجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم، قال البيضاوي: ولعله أتى بفعل الطمع أي: بعسى لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم.
وقد روي أنّ مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام ثم سبب عن الاستخلاف قوله تعالى مذكراً لهم محذراً من سطواته تعالى: ﴿فينظر﴾ أي: وأنتم خلفاء متمكنون ﴿كيف تعملون﴾ أي: يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إبقاعكم للأعمال ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداته.
روي عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان فطلب زيادة لعمرو فلم يجد فقرأ عمرو هذه الآية ثم دخل عليه بعدما استخلف فذكر له ذلك وقال: قد بقي فينظر كيف تعملون.
﴿ولقد أخدنا آل فرعون﴾ أي: فرعون وقومه ﴿بالسنين﴾ أي: بالقحط والجوع سنة بعد سنة فإنّ السنة تطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام ومنه قوله ﷺ «اللهمّ اجعلها عليهم كسني يوسف» ﴿ونقص من الثمرات﴾ أي: بالعاهات، قال قتادة: أمّا السنين فلأهل البوادي وأمّا نقص الثمرات فلأهل الأمصار، وعن كعب يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة ﴿لعلهم يذكرون﴾ أي: يتعظون فيؤمنون ويرجعون عما هم عليه من الكفر والمعاصي لأنّ الشدّة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى من الخيرات والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وإذا مسكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه﴾ (الإسراء، ٦٧)
وقوله تعالى: ﴿وإذا مسه الشرّ فذو دعاء عريض﴾ (فصلت، ٥١)
وقال سعيد بن جبير: عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في نفسه ثلثمائة وعشرين سنة ولو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية ثم بين سبحانه وتعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال:
﴿فإذا جاءتهم الحسنة﴾ قال ابن عباس: العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة ﴿قالوا لنا هذه﴾ أي: نحن مستحقوه على العادة التي جرت من كثرة نعمتنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله تعالى فيشكروه على أنعامه ﴿وإن تصبهم سيئة﴾ أي: قحط وجدب ومرض وبلاء ورأوا ما يكرهونه في أنفسهم ﴿يطيروا﴾ يتشاءموا وأصله يتطيروا ﴿بموسى ومن معه﴾ من المؤمنين، ويقولون: ما أصابنا إلا بشؤمهم وهذا إغراق في وصفهم في الغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات وهي لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوّاً وانتهاكاً في البغي وإنما عرّف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد إلا بالتبع {ألا إنما
من عجل، والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة، وقال قوم: معناه خلق الإنسان يعني آدم عليه السلام من تعجيل في خلق الله تعالى إياه لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس، قال مجاهد: فلما أحيا الروح رأسه قال: يارب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وقيل بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة وغيرها، وقال قوم: من عجل أي: من طين قال الشاعر:
*والنبع في الصخرة الصماء منبته
... والنخل ينبت بين الماء والعجل
ثم قال تعالى مهدداً للمكذبين: ﴿سأريكم آياتي﴾ أي: مواعيدي بالعذاب ﴿فلا تستعجلون﴾ أي: تطلبون أن أوجد العجلة بالعذاب، أو غيره فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم؛ لأنها إرادة الشيء قبل أوانه فإن قيل: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله: خلق الإنسان من عجل وقوله تعالى: ﴿وكان الإنسان عجولاً﴾، أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ أجيب: بأن هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة، وقد أراهم بعض آياته وهو القتل ببدر.
﴿ويقولون﴾ في استهزائهم ﴿متى هذا الوعد﴾ أي: بإتيان الآيات من الساعة ومقدّماتها وغيرها ﴿إن كنتم﴾ فيما توعدون به ﴿صادقين﴾ أي: عريقين في هذا الوصف يعنون محمداً ﷺ وأصحابه، وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء، ثم بيّن تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم بقوله تعالى:
﴿لو يعلم الذين كفروا﴾ وذكر المفعول به بقوله تعالى: ﴿حين﴾ أي: وقت ﴿لا يكفون﴾ أي: لا يدفعون ﴿عن وجوههم﴾ التي هي أشرف أعضائهم ﴿النار﴾ استسلاماً وعجزاً ﴿ولا عن ظهورهم﴾ التي هي أشدّ أجسامهم السياطَ ﴿ولا هم ينصرون﴾ أي: لا يمنعون من العذاب في القيامة وجواب لو محذوف والمعنى: لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا العذاب، ولا قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين.
﴿بل تأتيهم﴾ أي: القيامة ﴿بغتة﴾ أي: فجأة ﴿فتبهتهم﴾ أي: تحيرهم، يقال: فلان مبهوت أي: متحير ﴿فلا يستطيعون ردّها﴾ أي: لا يطلبون طوع ذلك لهم في ذلك الوقت ليأسهم منه ﴿ولا هم ينظرون﴾ أي: يمهلون لتوبة أو معذرة، ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك أتبعه ما يدل على أنّ الرسل في ذلك شرع واحد تسلية له ﷺ فقال عاطفاً على وإذا رآك:
﴿ولقد استهزئ برسل من قبلك﴾ أي: كثيرين فلك بهم أسوة، وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر الدال والباقون بالضم وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء ساكنة ﴿فحاق﴾ أي: نزل ﴿بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون﴾ وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك، ولما أعلم الله تعالى أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجهوهم النار ولا عن ظهورهم بسائر ما وصفهم به. أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أنّ الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلامة، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ يا أشرف المرسلين للمستهزئين ﴿من يكلؤكم﴾ أي: يحفظكم ﴿بالليل والنهار من الرحمن﴾ أي: من عذابه إن نزل بكم أي: لا أحد يفعل ذلك ﴿بل هم عن ذكر ربهم﴾ أي: القرآن ﴿معرضون﴾ لا يتفكرون فيه ولا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه.
﴿أم﴾ فيها معنى الهمزة للإنكار
الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل، وخلق مواضع الأنهار والشجر والقرى يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة وفرغ من الخلق يوم السبت ولكن، في حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل»، فإن قيل: الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل؟ أجيب: بأن المراد في مقدار يومين أو نوبتين، خلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون، قال البيضاوي: ولعل المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة، ومن خلقها في يومين أنه خلق لها أصلاً مشتركاً ثم خلق لها صوراً بها صارت أنواعها، وكفرهم به إلحادهم في ذاته تعالى وصفاته، وقرأ قالون وأبو عمرو وهشام بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام وأدخلوا بين الهمزة المحققة
والمسهلة ألفاً، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال، والباقون بتحقيقهما من غير إدخال.
ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره عطف على تكفرون قوله تعالى: ﴿وتجعلون﴾ أي: مع هذا الكفر ﴿له أنداداً﴾ من الخشب المنجور ومن الحجر المنحوت شركاء في المعبودية ولما بكَّتهم على قبح معتقدهم عظَّم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال تعالى: ﴿ذلك﴾ أي: الإله العظيم ﴿رب العالمين﴾ أي: موجدهم ومربيهم وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال.
ولما ذكر تعالى ما هم به مقرون من إبداعها أتبعه بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك: فالأول: قوله تعالى:
﴿وجعل فيها رواسي﴾ أي: جبالاً ثوابت، وهو مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بينهما بأجنبي وهو قوله تعالى: ﴿وتجعلون﴾ فإنه معطوف على لتكفرون كما مر، فإن قيل: ما الفائدة في قوله تعالى: ﴿من فوقها﴾ ولم يقتصر على قوله: ﴿وجعل فيها رواسي﴾ كما اقتصر على قوله تعالى: ﴿وجعلنا فيها رواسي شامخات﴾ (المرسلات: ٢٧)
وقوله تعالى: ﴿وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم﴾ (فصلت: ١٠)
وقوله تعالى: ﴿وجعل فيها رواسي﴾ ؟ أجيب: بأنه تعالى لو قال وجعل لها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال: جعلت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال الثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله تعالى.
ولما هيأ الأرض لما يراد منها ذكر ما أودعها، وهو النوع الثاني: بقوله تعالى: ﴿وبارك فيها﴾ أي: بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك، وقال ابن عباس: يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الحيوانات، النوع الثالث: قوله تعالى: ﴿وقدر فيها أقواتها﴾ أي: أقوات أهلها بأن عيّن لكل نوع ما يصلحه ويغني به، وقال محمد بن كعب: قدر الأقوات قبل أن يخلق الخلق والأبدان
غريباً كما بدأ» «يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر» وفي أخرى: «يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة» وفي أخرى: «العالم فيهم أنتن من جيفة حمار فالله المستعان». وقرأ حفص بغير ألف بين الفاء والكاف والباقون بالألف، قيل هما بمعنى، وقيل: فكهين فرحين وفاكهين ناعمين. وقيل: فاكهين أصحاب فاكهة ومزاح.
﴿وإذا رأوهم﴾ أي: رأى المجرمون المؤمنين ﴿قالوا﴾ أي: المجرمون ﴿إنّ هؤلاء﴾ أي: المؤمنين ﴿لضالون﴾ أي: لإيمانهم بمحمد ﷺ يرون أنهم على شيء، وهم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شيء لا يدرى هل له وجود أم لا؟
قال الله تعالى: ﴿وما﴾ أي: والحال أنهم ما ﴿أرسلوا﴾ أي: الكفار ﴿عليهم﴾ أي: على المؤمنين ﴿حافظين﴾ أي: موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وهذا تهكّم بهم. وقيل: هو من جملة قول الكفار، وأنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إنّ هؤلاء لضالون، وأنهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكار لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، وجدّهم في ذلك.
وقوله تعالى: ﴿فاليوم﴾ منصوب بيضحكون، ولا يضر تقديمه على المبتدأ؛ لأنه لو تقدّم العامل هنا لجاز؛ إذ لا لبس بخلاف: زيد قام في الدار لا يجوز في الدار زيد قام، ومعنى فاليوم أي: في الآخرة ﴿الذين آمنوا﴾ ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان ﴿من الكفار يضحكون﴾ وفي سبب هذا الضحك وجوه منها:
أنّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدينا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه.
ومنها أنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء، وأنهم باعوا الباقي بالفاني.
ومنها أنهم يرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد.
ومنها: قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى أبوابها غُلِّقت دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً فذلك سبب الضحك.
ومنها: أنهم إذا دخلوا الجنة وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار كما قال تعالى: ﴿على الأرائك﴾ أي: الأسرة العالية ﴿ينظرون﴾ إليهم كيف يعذبون في النار ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضاً.
تنبيه: ينظرون حال من يضحكون، أي: يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان. وقال كعب: بين الجنة والنار كوى، إذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ له كان في الدنيا اطلع عليه من تلك الكوى كما قال تعالى: ﴿فاطلع فرآه في سواء الجحيم﴾ (الصافات: ٥٥)
فإذا اطلعوا من الجنة على أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا.
قال الله تعالى: ﴿هل ثوّب الكفار﴾ أي: هل جوزوا ﴿ما كانوا يفعلون﴾ أي: جزاء استهزائهم بالمؤمنين، ومعنى الاستفهام ههنا: التقرير، وثوّبه وأثابه بمعنى واحد إذا جازاه. قال أوس:
*سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب
... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدى
وقرأ الكسائي وهشام بإدغام اللام في الثاء والباقون بالإظهار. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ سورة المطففين سقاه الله تعالى من الرحيق المختوم يوم القيامة». حديث موضوع.