خيلفتي ﴿في قومي وأصلح﴾ أي: ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحاً ﴿ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ أي: ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
فإن قيل: إنّ هارون كان شريك موسى عليهما السلام في النبوّة فكيف جعله خليفة لنفسه فإنّ شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته، وردّ الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدون يكون إهانة له؟ أجيب: بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر إلا أنّ موسى عليه السلام كان هو الأصل في تلك النبوّة.
فإن قيل: لما كان هارون نبياً والنبيّ لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصى إليه بالإصلاح؟ أجيب: بأنّ المقصود من هذا الأمر التأكيد كقول الخليل: ﴿ولكن ليطمئن قلبي﴾ (البقرة، ٢٦)
﴿ولما جاء موسى لميقاتنا﴾ أي: للوقت الذي وعدناه للكلام فيه ﴿وكلمه ربه﴾ دلت الآية الكريمة على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى، قال الزمخشريّ في كشافه: وكلمه ربه من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح، اه. وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأنّ ذلك الجرم كالشجرة لا يقول: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهب بعض الحنابلة والحشوية إلى أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، قال الإمام الرازي: وهذا القول أخس من أن يلتفت إليه العقل والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنّ كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأنّ موسى سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية، قالوا: كما أنه لا يبعد رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسماً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنّ كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً.
وفيما روي أنّ موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أنّ سماع كلامه تعالى القديم ليس من جنس كلام المحدثين وهل كان سبحانه وتعالى كلم موسى وحده أو مع أقوام آخرين؟ ظاهر الآية يدل للأوّل لأنّ قوله تعالى: ﴿وكلمه ربه﴾ يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عمن عداه، وقال القاضي: بل السبعون المختارون سمعوا أيضاً كلام الله تعالى، قال: لأنّ الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكل وأيضاً فإنّ تكليم الله تعالى على هذا الوجه معجز وقد تقدّمت نبوّة موسى عليه السلام فلا بدّ من ظهور هذا المعنى لغيره، ولما سمع عليه السلام كلام ربه اشتاق إلى رؤيته سبحانه وتعالى ﴿قال رب أرني أنظر إليك﴾ قال في الكشاف: ثاني مفعولي أرني محذوف أي: أرني نفسك أنظر إليك.
فإن قيل: الرؤية عين النظر فكيف قيل: أرني أنظر إليك؟ أجيب: بأنّ معنى أرني نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك وفي هذا دليل على أنّ رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأنّ طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصاً ما يقتضي الجهل بالله تعالى ولذلك ردّه بأن ﴿قال﴾ له ﴿لن تراني﴾ دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إليّ تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على بعد في الرائي لم يوجد فيه بعد وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين: قالوا: ﴿أرنا الله جهرة﴾ (النساء، ١٥٣)
كما قاله الزمخشري أشدّ خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلم
إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم، ولو لم يقل تعالى: ﴿على إبراهيم﴾ لبقيت ذات برد أبداً، والمعنى كوني ذات برد وسلام على إبراهيم، فبولغ في ذلك حتى كان ذاتها برد وسلام، والمراد: ابردي فيسلم منك إبراهيم أو ابردي برداً غير ضارّ، قال السدّي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا بعين ماء عذب وورد أحمر، ونرجس قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام قال المنهال ابن عمرو قال إبراهيم: ما كنت أياماً قط أنعم مني في الأيام التي كنت في النار، وقال ابن يسار وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم يؤنسه قال وبعث الله تعالى جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة، فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدّثه، وقال جبريل: يا إبراهيم إنّ ربك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضر أحبابي، ثم نظر نمروذ وأشرف على النار من صرح له، فرآه جالساً في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب فناداه يا إبراهيم بإلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: هل تخشى إن قمت فيها أن تضرك قال: لا، قال: قم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلما خرج إليه قال له: من الرجل الذي رأيته معك في مثل صورتك قاعداً إلى جنبك قال: ذاك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني فيها، فقال نمروذ: إني مقرب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة قال: إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على دينك حتى تفارقه إلى ديني، فقال: لا أستطيع ترك ملكي، ولكن
أذبحها له فذبحها له نمروذ، ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله تعالى منه وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ست عشرة سنة واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء في الحديث: «لا يعذب بالنار إلا خالقها»، وقيل: إنّ الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق، وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت والله على كل شيء قدير، فدفع عن إبراهيم حرّها كما يدفع ذلك عن خزنة جهنم.
﴿وأرادوا به كيداً﴾ أي: مكراً في إضراره بالنار، وبعد خروجه منها ﴿فجعلناهم﴾ أي: بما لنا من الجلال ﴿الأخسرين﴾ أي: أخسر من كل خاسر عاد سعيهم برهاناً قاطعاً على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجباً لزيادة درجته واستحقاقهم أشدّ العذاب، وقد أرسل الله تعالى على نمروذ، وعلى قومه البعوض فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة، فأهلكته.
فائدة: وقع مثل هذه القصة لبعض أتباع نبينا محمد ﷺ وهو أبو مسلم الخولانيّ طلبه الأسود العنسي لما ادّعى النبوّة فقال له: اشهد أني رسول الله، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار، فألقي فيها، ثم وجده قائماً يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي ﷺ فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهم، وقال عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمّة محمد ﷺ من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله.
﴿ونجيناه ولوطاً﴾ من نمروذ وقومه من أرض العراق ﴿إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾ وهي الشام بارك
وعلى كل شيء فلا شريك لنا، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب إبصار بصائرهم غاية الإبصار، فكرهوا ذلك لما يلزمه من تركهم طريق آبائهم وأقبلوا على لزوم طريق آبائهم ﴿فاستحبوا﴾ أي: اختاروا ﴿العمى﴾ أي: الكفر ﴿على الهدى﴾ أي: الإيمان، قال القشيري قيل: إنهم آمنوا وصدقوا ثم ارتدوا وكذبوا فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستبدال.
فإن قيل: أليس معنى هديته حصلت فيه الهدى والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، وبمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ أجيب: بأنه لما مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذراً ولا علة فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها.
﴿فأخذتهم صاعقة العذاب﴾ أي: بسبب ذلك أخذ قهر وهوان ﴿الهون﴾ أي: ذي الهوان وهو الذي يهينهم ﴿بما كانوا﴾ أي: دائماً ﴿يكسبون﴾ أي: من شركهم وتكذيبهم صالحاً عليه السلام.
ولما أنهى الله تعالى الخبر عن الكافرين من الفريقين أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي ﷺ ونذارة لمن صد عنه فقال تعالى:
﴿ونجينا﴾ أي: تنجية عظيمة بما لنا من القدرة ﴿الذين آمنوا﴾ أي: أوجدوا هذا الوصف من الفريقين ﴿وكانوا﴾ أي: كوناً عظيماً ﴿يتقون﴾ أي: يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بغير دليل، فإن قيل: كيف يجوز للنبي ﷺ أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمته، وقد صرح تعالى بذلك فقال عز من قائل: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ (الأنفال: ٣٣)
وجاء في الحديث الصحيح «أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع» ؟ أجيب: بأنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في الكفر عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة، وأن السبب الموجب للعذاب واحد وربما يكون العذاب النازل من جنس ذلك العذاب وإن كان أقل درجة وهذا القدر يكفي في التخويف.
ولما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير فقال تعالى:
﴿ويوم﴾ أي: واذكر يوم ﴿يحشر﴾ أي: يجمع بكره بأمر قاهر لا كلفة فيه ﴿أعداء الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿إلى النار﴾ وقرأ نافع بنون مفتوحة وضم الشين ونصب أعداء على البناء للفاعل وهو الله تعالى، والباقون بياء الغيبة مضمومة وفتح الشين على البناء للمفعول ورفع أعداء لقيامه مقام الفاعل، وجه الأول أنه معطوف على نجينا فحسن أن يكون على وفقه في اللفظ، ووجه الثاني موافقة قوله تعالى: ﴿فهم﴾ أي: بسبب حشرهم ﴿يوزعون﴾ أي: يساقون ويدفعون إلى النار، وقال قتادة: يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا أي: يوقف سوابقهم حتى تصل إليهم.
ولما بين تعالى إهانتهم بالوزع بين غايتها بقوله تعالى:
﴿حتى إذا ما جاؤوها﴾ أي: النار التي كانوا بها يكذبون، فما زائدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور، كما قال تعالى: ﴿شهد عليهم﴾ وبين الشاهد وعدده بقوله تعالى: ﴿سمعهم﴾ وأفرد السمع لعدم تفاوت الناس فيه ﴿وأبصارهم﴾ وجمعها لعظم تفاوت الناس فيها ﴿وجلودهم بما كانوا يعملون﴾ أي: يجددون عمله مستمرين عليه.
تنبيه: في كيفية تلك الشهادة ثلاثة
فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك: أنّ الله تعالى حرّمه. فخطب فلم يقبلوا منه فقالت: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله: ﴿أصحاب الأخدود﴾ وعن مقاتل: كانت الأخاديد ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، وأخرى بالشام، وأخرى بفارس حرقوا بالنار، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآناً، وأنزل في التي كانت بنجران. وذلك أنّ رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الانجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً ما بين رجل وامرأة، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار، فضُربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك ناراً لا تُطفأ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً فذلك قوله تعالى: ﴿قتل أصحاب الأخدود﴾.
وقوله تعالى: ﴿النار﴾ بدل اشتمال من الأخدود. وقوله تعالى: ﴿ذات الوقود﴾ وصف لها بأنها نار عظيمة لها، ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، واللام في الوقود للجنس.
وقوله تعالى: ﴿إذ هم عليها قعود﴾ ظرف لقتل أي: لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها، ومعنى عليها على ما يدنوا منها من حافات الأخدود كقوله:
*وبات على النار الندى والمحلق*
وكما تقول: مررت عليه تريد مستعلياً المكان الذي يدنو منه، فكانوا يقعدون حولها على الكراسي. وقال القرطبي: عليها. قوله وقال القرطبي عليها كذا في جميع النسخ وفيه سقط فراجعه.
﴿وهم على ما يفعلون بالمؤمنين﴾ بالله من تعذيبهم بالإلقاء في النار إن لم يرجعوا عن إيمانهم ﴿شهود﴾ أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به أو شهود بمعنى حضور، إذ روي أنّ الله تعالى أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى القاعدين فأحرقتهم. قال الرازي: يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين. والمشهور أن المقتولين هم المؤمنون. وروي أن المقتولين هم الجبابرة. روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم، ونجّى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواحدي. وتأوّلوا قوله تعالى: ﴿فلهم عذاب جهنم﴾ أي: في الآخرة ﴿ولهم عذاب الحريق﴾ أي: في الدنيا.
فإن فسر أصحاب الأخدود بالقاتلين فيكون قوله تعالى: ﴿قتل أصحاب الأخدود﴾ دعاء عليهم كقوله تعالى: ﴿قتل الإنسان ما أكفره﴾ (عبس: ١٧)
وإن فسر بالمقتولين كان المعنى:


الصفحة التالية
Icon