منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية قال الإمام الرازي: وهذا أيضاً أحد ما يدل على أنّ الرؤية جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة.
وروي أنّ موسى عليه السلام كان بعدما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له زوجته: أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرّت ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوّجي بعدي لأنّ المرأة لآخر أزواجها ﴿وكتبنا له﴾ أي: لموسى ﴿في الألواح﴾ أي: ألواح التوراة، قال البغوي: وفي الحديث: «كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنتا عشرة ذراعاً» وجاء في الحديث: «خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده» والمراد بيده قدرته، وقيل: كانت من زبرجدة خضراء، وقيل: من ياقوتة حمراء، وقيل: من صحرة صماء لينها الله تعالى لموسى فقطعها بيده، وأمّا كيفية الكتابة فقال ابن جريج: كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور، وقال وهب: سمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر وكان ذلك في أوّل يوم من ذي القعدة، وقيل: إنّ موسى خرّ صعقاً ـ يوم عرفة وأعطى التوراة يوم النحر وكانت الألواح عشرة على طول موسى، وقيل: كانت تسعة، وقيل: سبعة، وقال مقاتل: وكتبنا له في الألواح كنقش الخاتم، وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام أي: لم يحفظها ويقرأها عن ظهر قلب إلا هؤلاء الأربعة، قال الإمام الرازي: وليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح وعلى كيفية تلك الكتابة فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قويّ وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه.
وأمّا قوله تعالى: ﴿من كل شيء﴾ فلا شبهة أنه ليس على العموم بل مما يحتاج إليه موسى عليه السلام وقومه من أمر الدين وقوله تعالى: ﴿موعظة وتفصيلاً﴾ أي: تبييناً ﴿لكل شيء﴾ بدل من الجار والمجرور قبله أي: كتبنا كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام وقوله تعالى: ﴿فخذها﴾ على إضمار القول عطفاً على كتبنا أو بدلاً من قوله: ﴿فخذ ما آتيتك﴾ (الأعراف، ١٤٤)
والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو الرسالة وعن كعب الأحبار أنّ موسى عليه السلام نظر في التوراة فقال: إني أجد أمّة هي خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأوّل والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمّتي قال: هي أمّة محمد يا موسى، قال: يا رب إني أجد أمّة هم الحامدون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا: نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأوّلون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجابون والمستجاب لهم الشافعون والمشفعون لهم فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال:
شأنهما ﴿إذ﴾ أي: حين ﴿يحكمان في الحرث﴾ الذي أنبت الزرع وهو من إطلاق اسم السبب على المسبب كالسماء على المطر والنبت، قال ابن عباس: وأكثر المفسرين كان ذلك كرماً قد تدلت عناقيده، وقال قتادة: كان زرعاً قال ابن الخازن وهو أشبه للعرف ﴿إذ نفشت﴾ أي: انتشرت ليلاً بغير راع ﴿فيه غنم القوم﴾ فرعته، قال قتادة: النفش في الليل والعمل في النهار ﴿وكنا لحكمهم﴾ أي: الحكمين والمتحاكمين إليهما ﴿شاهدين﴾ أي: كان ذلك بعلمنا ومرأى منّا لا يخفى علينا علمه، وقال الفرّاء: جمع الاثنين فقال لحكمهم ويريد داود وسليمان؛ لأن الاثنين جمع وهو مثل قوله تعالى: ﴿فإن كان له أخوة فلأمه السدس﴾ (النساء، ١١٠)
وهو يريد أخوين، قال ابن عباس وقتادة وذلك أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إنّ هذا انفلتت غنمه ليلاً، فوقعت في حرثي، فأفسدته، فلم تبق منه شيئاً، فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه، فقال سليمان وهو ابن إحدى عشر سنة: لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا، وروي أنه قال: غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر بذلك داود، فدعاه فقال: كيف تقضي، ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوّة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرّها ونسلها وصوفها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيت. كما قال تعالى:
﴿ففهمناها﴾ أي: الحكومة ﴿سليمان﴾ أي: علمناه القضية وألهمناها له.
تنبيه: يجوز أن تكون حكومتهما بوحي إلا أنّ حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ويجوز أن تكون باجتهاد إلا أن اجتهاد سليمان أشبه بالصواب فإن قيل: ما وجه كل واحدة من الحكومتين؟ أجيب: بأنّ وجه حكومة داود أنّ الضرر وقع بالغنم فسلمت بجنايتها إلى المجني عليه.
كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك، أو يفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث.
ووجه حكومة سليمان: أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، مثاله ما قال أصحاب الشافعي فيمن غصب عبداً وأبق من يده أنه يضمن بالقيمة، فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر ترادَّا.
فإن قيل: لو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ أجيب: بأن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون فيها ضماناً بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد لقوله ﷺ «جرح العجماء جبار»، أي: هدر رواه الشيخان وغيرهما، والشافعي وأصحابه يوجبون الضمان بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلاً، ولذلك قضى النبيّ ﷺ لما دخلت ناقة البراء حائطاً وأفسدته، فقال على: «أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل»، ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود، نفاه بقوله تعالى: ﴿وكلاً﴾ أي: منهما ﴿آتينا حكماً﴾ أي: نبوّة وعملاً
يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها، ومن ذلك الشيطان، وشر منه النفس وبئس القرين، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غداً عليه، وإذا أراد الله بعبده خيراً قيض الله له قرناء خير يعينونه على الطاعة ويحملونه عليها ويدعونه إليها.
وروي عن أنس أن النبي ﷺ قال: «إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه عنده ولا قبيحاً إلا حسنه عنده». وعن عائشة: إذا أراد الله بالوالي خيراً قيض له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تعالى».
تنبيه: في الآية دلالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافرين لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء فزينوا لهم الباطل، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر ولكن لا يرضاه كما قال تعالى: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ (الزمر: ٧)
﴿وحق﴾ أي: وجب وثبت ﴿عليهم القول﴾ أي: كلمة العذاب، وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وقوله تعالى: ﴿في أمم﴾ محله نصب على الحال من الضمير في عليهم أي: حق عليهم القول كائنين في جملة أمم كثيرة، وفي بمعنى مع ﴿قد خلت﴾ أي: لم تتعظ أمة منهم بالأخرى ﴿من قبلهم﴾ أي: في الزمان ﴿من الجن والأنس﴾ قد عملوا مثل أعمالهم، وقوله تعالى: ﴿إنهم﴾ أي: جميع المذكورين منهم وممن قبلهم ﴿كانوا خاسرين﴾ تعليل لاستحقاقهم العذاب وقوله تعالى:
﴿وقال الذين كفروا﴾ أصله وقالوا أي: المعرضون، ولكنه قال ذلك تنبيهاً على الوصف الذي أوجب إعراضهم ﴿لا تسمعوا﴾ أي: شيئاً من مطلق السماع ﴿لهذا القرآن﴾ وعينوه بالإشارة احترازاً عن غيره من الكتب القديمة كالتوراة، قال القشيري: لأنه مقلب القلوب وكل من استمع له صبا إليه ﴿والغوا﴾ أي: اهزؤوا ﴿فيه﴾ أي: اجعلوه ظرفاً للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغط واللغو والتصدية أي: التصفير والتصفيق وغيرها، وقال ابن عباس: كان بعضهم يعني قريشاً يعلم بعضاً إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر، واللغو: هو من باب لغي بالكسر يلغى بالفتح إذا تكلم بما لا فائدة فيه ﴿لعلكم تغلبون﴾ أي: ليكون حالكم حال من يرجى له أن يغلب ويظفر بمراده في أن لا يميل إليه أحد وسكت ونسي ما كان يقول، وهذا يدل على أنهم عارفون بأن من يسمعه مال إليه وأقبل بكليته عليه وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها.
﴿فلنذيقن الذين كفروا﴾ أظهر في موضع الإضمار إذ أصله فلنذيقنهم، لكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف ﴿عذاباً شديداً﴾ في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان، وفي الآخرة بالنيران ﴿ولنجزينهم﴾ أي: بأعمالهم ﴿أسوأ﴾ أي: سوء العمل ﴿الذي كانوا يعملون﴾ أي: مواظبين عليه.
﴿ذلك﴾ أي: الجزاء الأسوأ العظيم جداً ﴿جزاء أعداء الله﴾ أي: الملك الأعظم، ثم بينه بقوله تعالى: ﴿النار﴾ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة واواً خالصة، والباقون بتحقيقهما، وأما الابتداء بالثانية فالجميع بالتحقيق، ثم فصّل بعض
فهو يفعل ما يريد.
وعن أبي اليسر: دخل ناس من الصحابة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. وقال الزمخشري: فعال خبر مبتدأ محذوف، وإنما قال فعال لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الطبري: رفع فعال وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود.
تنبيه: دلت هذه الآية أنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. قال بعضهم: ودلت على أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء لأنها دالة على أنه يفعل ما يريد.
﴿هل﴾ أي: قد ﴿أتاك﴾ أي: يا أشرف الرسل ﴿حديث﴾ أي: خبر ﴿الجنود﴾ أي: الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وقوله تعالى: ﴿فرعون وثمود﴾ يجوز أن يكون بدلاً من الجنود، واستشكل كونه بدلاً؛ لأنه لم يكن مطابقاً للمبدل منه في الجمعية. وأجيب: بأنه على حذف مضاف، أي: جنود فرعون وأنّ المراد فرعون وقومه، واستغنى بذكره عن ذكرهم لأنهم أتباعه، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه.
والمعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله تعالى بهم حين كذبوا رسلهم كيف هلكوا بكفرهم فقومك إن لم يؤمنوا بك فعل بهم كما فعل بهؤلاء، فاصبر كما صبر الأنبياء قبلك على أممهم.
﴿بل الذين كفروا﴾ أي: من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك ﴿في تكذيب﴾ لك لا يرعوون عنه، ومعنى الإضراب: أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشدّ من تكذيبهم، وإنما خص فرعون وثمود لأنّ ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة، وإن كانوا من المتقدّمين، وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك فدل بهما على أمثالهما.
وقوله تعالى: ﴿والله﴾ أي: والحال أن الملك الذي له الكمال كله ﴿من ورائهم محيط﴾ وفيه وجوه:
أحدها: أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحصره، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ينسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً، يقول الله تعالى: فهم كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم، إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم.
ثانيها: أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقوله تعالى: ﴿وظنوا أنهم أحيط بهم﴾ (يونس: ٢٢)
فهو عبارة عن مشارفة الهلاك.
ثالثها: أنه تعالى محيط بأعمالهم، أي: عالم بها فيجازيهم عليها.
﴿بل هو﴾ أي: هذا القرآن الذي كذبوا به، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿قرآن﴾ أي: جامع لكل منفعة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف ﴿مجيد﴾ أي: شريف وحيد في اللفظ والمعنى، وليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة.
﴿في لوح﴾ هو في الهواء فوق السماء السابعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدّق بوعيده واتبع رسله أدخله الجنة، قال: واللوح لوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدرّ والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وكلامه نور، معقود بالعرش وأصله في حجر ملك.
وقرأ ﴿محفوظ﴾ بالرفع نافع على أنه نعت لقرآن، والباقون بالجرّ على أنه نعت للوح. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش وقال البغوي: هو أمّ الكتاب، ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه


الصفحة التالية
Icon