والخير، وقال ابن عباس: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب ﴿للذين هم لربهم يرهبون﴾ أي: يخافون.
فإن قيل: التقدير: الذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله: ﴿لربهم﴾ ؟ أجيب بأوجه: الأوّل: أنّ تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله تعالى: ﴿إن كنتم للرؤيا تعبرون﴾ (يوسف، ٤٣)
الثاني: أنها لام الأجل والمعنى: للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة، الثالث: أنه قد يزاد حرف الجرّ في المفعول وإن كان الفعل متعدّياً كقولك: قرأت السورة وقرأت بالسورة.
﴿واختار موسى قومه﴾ أي: من قومه فحذف الجارّ وأوصل الفعل إليه فنصب يقال اخترت من الرجال زيداً، واخترت الرجال زيداً، وأنشدوا قول الفرزدق:
*منا الذي اختير الرجال سماحة | وجوداً إذا هب الرياح الزعازع* |
*أستغفر الله ذنباً لست محصيه*
ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر:
*أمرتك الخير فافعل ما أمرت به*
قال الرازي: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الخير على ما هو المقصود منه وقوله: ﴿سبعين رجلاً لميقاتنا﴾ عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكر من التكلفات ﴿فلما أخذتهم الرجفة﴾.
روي أنّ الله تعالى أمره أن يأتيه في سبعين رجلاً من بني إسرائيل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا فقال: لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب معه الباقون.
روي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج إلى طور سينا لميقات ربه وكان أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه وافعل لا تفعل فلما فرغ من أمره ونهيه وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: له لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي الرجفة فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ﴿قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل﴾ أي: من قبل خروجهم إلى الميقات ﴿وإياي﴾ معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني إذا رجعت إليهم وما هم معي وعنى بذلك: أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالإنقاذ منهما فإن ترحمت عليهم مرّة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك، وقال وهب: لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة
البلاء ولا يعيره بالمصيبة، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين، ولكنه يرحمه ويبكي معه، ويستغفر له، ويحزن لحزنه ويدله على أرشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول، فقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم، ويكسر قلوبكم، ألم تعلموا أنّ لله عباداً أسكتتهم خشيته من غير عيّ، ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم، واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإجلالاً له، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار براء، ومع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء.
فقال أيوب: إنّ الله سبحانه وتعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله تعالى على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة، ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيماً في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله تعالى نور الكرامة، ثم أعرض عنهم أيوب عليه السلام يعني الثلاثة وقال: أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، فكيف بي لو قلت تصدقوا عليَّ بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوضتم بإحسانكم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوباً قد سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم، وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام، وأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستعيناً به مستغفراً متضرّعاً إليه.
فقال: يا رب لأيّ شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت، فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني، فألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل بي؛ ألم أكن للغريب داراً وللمسلمين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً؛ إلهي أنا عبدك إن أحسنت إليّ فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي؛ جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً، وقد وقع بي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، فإن قضاءك هو الذي أذلني، وإنّ سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب.
ثم نودي: يا أيوب إنّ الله تعالى يقول: ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً، قم فأدل بعذرك وتكلم بحجتك، وخاصم عن نفسك، واشدد أزرك، وقم مقام جبار يخاصم جباراً إن استطعت، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي؛ لقد منتك نفسك يا أيوب أمراً ما بلغ مثله قوتك أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمدّ بأطرافها؟ هل أنت علمت بأي مقدار قدرتها أم على أي: شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض أم بحكمتك كانت
مصير المسيء والمحسن تهديد فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعمله فإنه ملاقيه، وقوله تعالى ﴿إنه بما تعملون﴾ أي: في كل وقت ﴿بصير﴾ أي: عالم بأعمالكم فيه، وعيد بالمجازاة وقوله تعالى:
﴿إن الذين كفروا بالذكر﴾ أي: القرآن ﴿لما جاءهم﴾ بدل من قوله تعالى: ﴿إن الذين يلحدون﴾ أو مستأنف وخبر إن محذوف مثل معاندون أو هالكون أو أولئك ينادون، ولما بالغ تعالى في تهديد الملحدين في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن فقال تعالى: ﴿وإنه﴾ أي: والحال إنه ﴿لكتاب﴾ أي: جامع لكل خير ﴿عزيز﴾ أي: فهو كثير النفع عديم النظير يغلب كل ذكر ولا يغلبه ذكر ولا يقرب منه ذلك ويعجز كل معارض ولا يعجز عن إقعاد مناهض، وقال الكلبي: عن ابن عباس رضي الله عنهما كريم على الله تعالى، وقال قتادة: أعزه الله تعالى.
﴿لا يأتيه الباطل﴾ لأنه يمتنع منه بمتانة وصفه وجزالة نظمه وحلاوة معانيه فلا يلحقه تغيير ﴿من بين يديه ولا من خلفه﴾ أي: لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات لأن قدام أوضح ما يكون وخلف أخفى ما يكون فما بين ذلك من باب أولى، والعبارة كناية عن ذلك لأن صفة الله تعالى لا وراء لها ولا أمام لها على الحقيقة، ومثل ذلك ليس وراء الله تعالى مرمى ولا دونه منتهى، وقال قتادة والسدي: الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه، وقال الزجاج: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وعلى هذا فمعنى الباطل الزيادة أو النقصان، وقال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يأتي بعده كتاب فيبطله، ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿تنزيل﴾ أي: بحسب التدريج لأجل المصالح ﴿من حكيم﴾ أي: بالغ الحكمة فهو يضع كل شيء منه في أتم محله من وقت النزول وسياق النظم ﴿حميد﴾ أي: بالغ الإحاطة بأوصاف الكمال من الحكمة وغيرها والتطهر والتقديس عن كل شائبة نقصِ يحمده كل خلقه بلسان حاله إن لم يحمده بلسان قاله، فإن قيل: أما طعن فيه الطاعنون وتأوله المبطلون؟ أجيب: بأن الله تعالى حماه عن تعلق الباطل به بأن قيض قوماً عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقاً ولا قول مبطل إلا مضمحلاً ونحو هذا قوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ (الحجر: ٩)
ثم سلَّى نبيه محمداً ﷺ بقوله تعالى:
﴿ما يقال﴾ أي: من الكفار أو من غيرهم ﴿لك﴾ يا أكرم الخلق مما يحصل به ضيق صدر وتشويش فكر ﴿إلا ما﴾ أي: شيء ﴿قد قيل﴾ أي: حصل قوله على ذلك الوجه ﴿للرسل من قبلك﴾ فصبروا على ما أوذوا فاصبر كما صبروا ﴿إن ربك﴾ أي: المحسن إليك بإرسالك وإنزال كتابه إليك ومن يكرم بمثل هذا لا ينبغي له أن يحزن لشيء يعرض له ﴿لذو مغفرة﴾ أي: لمن تاب وآمن بك ﴿وذو عقاب أليم﴾ أي: مؤلم لمن أصر على التكذيب وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿إن ربك﴾ الآية مستأنف، وقيل: مفسر للمقول كأنه قيل للرسل: إن ربك لذو مغفرة وجرى على ذلك الزمخشري ونزل جواباً لقولهم هلا نزل القرآن بلغة العجم.
﴿ولو جعلناه﴾ أي: هذا الذكر بما لنا من العظمة ﴿قرآناً﴾ أي: على ما هو عليه من الجمع ﴿أعجمياً﴾ أي: لا يفصح ﴿لقالوا﴾ أي: هؤلاء المتعنتون ﴿لولا﴾ أي: هلا ولِمَ لا ﴿فصلت﴾ أي: بينت ﴿آياته﴾ حتى نفهمها
والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء، قال إبراهيم عليه السلام ﴿الذي خلقني فهو يهدين﴾ (الشعراء: ٧٨)
وقال موسى عليه السلام لفرعون: ﴿ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ (طه: ٥٠)
ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى:
﴿والذي أخرج المرعى﴾ أي: أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المرعى الكلأ الأخضر.
﴿فجعله﴾ أي: بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته ﴿غثاء﴾ أي: جافاً هشيماً ﴿أحوى﴾ أي: أسود يابساً. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون أحوى حالاً من المرعى أي: أخرجه أحوى أي: أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه. وقال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.
وقوله تعالى: ﴿سنقرؤك فلا تنسى﴾ بشارة من الله تعالى لنبيه محمد ﷺ بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه، فهو نفيٌ أخبر الله تعالى أنّ نبيه ﷺ لا ينسى. وقيل: نهيٌ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى: ﴿السبيلا﴾ (الأحزاب: ٦٧)
أي: فلا تفعله كرامةً، وتكريره لئلا ينساه، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب: بأنّ هذا غير لازم؛ إذ المعنى: النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع. قال الرزاي: وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين.
الأوّل: أنه كان رجلاً أمّياً فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزاً.
الثاني: أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخباراً، فيكون معجزاً.
وفي المشيئة في قوله تعالى: ﴿إلا ما شاء الله﴾ أي: المَلِك الذي له الأمر كله وجوه: أحدها: التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى:
﴿ولا تقولنّ لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله﴾ (الكهف: ٢٣ ـ ٢٤)
فكأنه تعالى يقول: إني عالم بجميع المعلومات، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها. ثانيها: قال الفرّاء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً ﷺ شيئاً؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسياً لذلك لقدر عليه كقوله تعالى: ﴿ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك﴾ (الإسراء: ٨٦)
ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى: ﴿لئن أشركت ليحبطنّ عملك﴾ (الزمر: ٦٥)
مع أنه ﷺ ما أشرك البتة ففائدة هذا الاستثناء أنّ الله تعالى يعرفه قدرته حتى يعلم أنّ عدم النسيان من فضل الله تعالى وإحسانه لا من قوّته.
ثالثها: أنّ الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز ﷺ في كل ما ينزل عليه من الوحي أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرمٌ بالغ في التثبت والتحفظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر الاستثناء بقاؤه ﷺ على التيقظ في جميع الأحوال.
رابعها: أن ينساه بنسخ تلاوته وحكمه، وكان ﷺ يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام خوف النسيان فكأنه قيل له: لا تعجل بها إنك لا تنسى ولا تتعب نفسك بالجهر بها.
﴿إنه﴾ أي: الذي مهما شاء كان ﴿يعلم الجهر﴾ أي: القول والفعل ﴿وما يخفى﴾ أي: منهما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، وما يخفى ما نسخ من صدرك.
وقوله تعالى: {ونيسرك