اليقين والعلم، وقيل: الهدى والبيان والرسالة، وقيل: الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور.
فإن قيل: كيف يمكن حمل النور هنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد ﷺ وإنما أنزل مع جبريل عليه السلام؟ أجيب: بأنّ معناه أنه أنزل مع نبوّته لأنّ نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قال: ﴿أولئك هم المفلحون﴾ أي: الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة.
ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبيّ الكريم حثاً على الإيمان وإيجاباً له على وجه يعلم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدّم زمانه أو تأخر قال تعالى:
﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم﴾ الخطاب عام وكان رسول الله ﷺ مبعوثاً إلى كافة الثقلين بل وإلى الملائكة قاله السبكي والبقاعيّ وغيرهما وهذا هو اللائق بمقامه ﷺ وإن خالف في ذلك بعضهم، وأما سائر الرسل فمبعوثون إلى أقوامهم فقط لقوله ﷺ «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طيبة مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوّي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه وأخبأت شفاعتي لأمتي».
فإن قيل: كان آدم عليه السلام مبعوثاً إلى جميع أولاده ونوح عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كانوا إلا ذلك القوم؟ أجيب: بأنّ ذلك لم يكن لعموم رسالتهما بل للحصر المذكور فليس ذلك من باب عموم الرسالة، وقوله: ﴿جميعاً﴾ حال من إليكم أي: إن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والإتباع لي وقد طار الخبر بشريعة محمد ﷺ إلى كل أفق وتغلغل في كل نفق ولم يبق الله أهل مدر ولا وبر ولا سهل ولا جبل ولا بحر ولا بر في مشارق الأرض ومغاربها إلا وقد ألقاه إليهم وملأ به مسامعهم وألزمهم به الحجة وهو سائله عنهم يوم القيامة وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة»، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مستشفعهم إذا حبسوا وأنا مبشرهم إذا يئسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر»، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبيّ ﷺ قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ ﷺ قال: «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أوّل شافع وأوّل مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر»، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي ﷺ قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» والفخر ادعاء العظمة والكبر والشرف أي: لا أقول تبجحاً ولكن شكراً وتحدّثاً بالنعمة وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته
وبعده اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً وأما يوم
إبراهيم عليهما السلام الذي سخرنا له من الماء بواسطة الروح الأمين ما عاش به صغيراً بعدما كان هالكاً لا محالة، ثم جعلناه طعام طعم وشفاء سقم دائماً وصناه وهو كبير من الذبح حين رأى أبوه في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء وحي، ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾ (الصافات، ١٠٧)
﴿و﴾ اذكر ﴿إدريس﴾ أي: ابن شيث بن آدم عليهم السلام الذي أحييناه بعد موته ورفعناه مكاناً عليا وهو أوّل نبيّ بعث من بني آدم عليهم السلام وتقدّمت قصته في سورة مريم ﴿و﴾ اذكر ﴿ذا الكفل﴾ سمي بذلك قال عطاء: لأن نبياً من أنبياء بني إسرائيل أوحى الله تعالى إليه أني أريد أن أقبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار لا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه، ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى به، فشكر الله له، ونبأه فسمي ذا الكفل، وقال مجاهد لما كبر إليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً من الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل قال: فجمع الناس، فقال: من يقبل مني ثلاثاً أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل فقال: أنا، فاستخلفه، فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة، فدق الباب فقال: من هذا؟ فقال: شيخ كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني، وفعلوا ما فعلوا، وجعل يطوّل حتى ذهبت القائلة، فقال: إذا رحت فأتني فإني آخذ حقك، فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه فلم يجده، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينظره، فلم يره.
فلما رجع إلى القائلة، وأخذ مضجعه أتاه، فدق الباب، فقال من أنت؟ فقال: الشيخ المظلوم، ففتح له وقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني، فقال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني قال: فانطلق فإذا جلست فأتني وفاتته القائلة، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله: لا تدعوا هذا الرجل يقرب من هذا الباب حتى أنام، فإنه قد شق عليّ النعاس، فلما كانت تلك الساعة جاء، فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر، فرأى كوّة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت يدق عليه الباب من داخل فاستيقظ فقال: يا فلان ألم آمرك قال: أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا بالرجل معه في البيت، فقال: أتنام والخصوم ببابك، فقال: أعدوّ الله قال: نعم أعييتني ففعلت ما ترى لأغضبك، فعصمك الله تعالى، فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به، وقيل إن إبليس جاءه وقال: إن لي غريماً يظلمني، فأحب أن تقوم معي وتستوفي حقي منه، فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب وروي أنه اعتذر إليه وقال صاحبي هرب وقيل: إن ذا الكفل رجل كفل أن يصلي كل ليلة مائة ركعة إلى أن يقبضه الله تعالى، فوفى به واختلفوا في أنه هل كان نبياً؟ فقال الحسن: كان نبياً، وعن ابن عباس أنه إلياس، وقيل: هو زكريا، وقيل: هو يوشع بن نون، وقال أبو موسى: لم يكن نبياً، ولكن كان عبداً صالحاً، ولما قرن الله تعالى بين هؤلاء الثلاثة استأنف مدحهم بقوله تعالى ﴿كلٌ﴾ أي: كل واحد منهم ﴿من الصابرين﴾ على ما ابتليناه به فآتيناهم ثواب الصابرين
﴿وأدخلناهم في رحمتنا﴾ أي: فعلنا بهم
في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال:
﴿وإذا أنعمنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿على الإنسان﴾ أي: الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا ﴿أعرض﴾ أي: عن التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى ﴿ونأى﴾ أي: أبعد بعداً جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً ﴿بجانبه﴾ أي: ثنى عطفه متبختراً ﴿وإذا مسه الشر﴾ أي: هذا النوع قليله وكثيره ﴿فذو دعاء﴾ أي: في كشفه وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يفعله إلا أفراد خصهم الله بلطفه ﴿عريض﴾ أي: مديد العرض جداً وأما طوله فلا يسئل عنه، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة، تقول العرب أطال فلان الدعاء وأعرض أي: أكثر، ثم أمر الله تعالى نبيه محمداً ﷺ بقوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء المعرضين ﴿أرأيتم﴾ أي: أخبروني ﴿إن كان﴾ أي: هذا القرآن ﴿من عند الله﴾ الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال ﴿ثم كفرتم به﴾ أي: من غير نظر واتباع دليل ﴿من أضل﴾ منكم هكذا كان الأصل ولكنه قال: ﴿ممن هو في شقاق﴾ أي: خلاف لأولياء الله تعالى ﴿بعيد﴾ أي: عن الحق تنبيها على أنهم صاروا كذلك ومن صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله عز وجل.
﴿سنريهم آياتنا في الآفاق﴾ قال ابن عباس: يعني منازل الأمم الخالية ﴿وفي أنفسهم﴾ أي: بالبلايا والأمراض، وقال قتادة: يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر، وقال مجاهد: في الآفاق ما يفتح الله تعالى من القرى على محمد ﷺ وفي أنفسهم فتح مكة، وقال عطاء: في الآفاق يعني: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم في آفاق الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات والنبات والأشجار والأنهار وفي أنفسهم من لطائف الصنعة وبديع الحكمة في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كقوله تعالى: ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ (الذاريات: ٢١)
تنبيه: قال النووي في تهذيبه: قال أهل اللغة: الآفاق النواحي، الواحد أفق بضم الهمزة والفاء، وأفق بإسكان الفاء.
ولما كان التقدير ولا نزال نكرر عليهم هذه الدلائل عطف عليه ﴿حتى يتبين لهم﴾ غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر ﴿أنه﴾ أي: القرآن ﴿الحق﴾ أي: الكامل في الحقبة الذي يطابق الواقع المنزل من الله تعالى بالبعث والحساب والعقاب فيعاقبون على كفرهم به وبالجائي به، وقيل: الضمير في أنه لدين الإسلام، وقيل: لمحمد ﷺ ﴿أولم يكف بربك﴾ أي: المحسن إليك بهذا البيان المعجز للأنس والجان شهادة بأن القرآن من عند الرحمن.
تنبيه: الباء زائدة للتأكيد كأنه قيل: أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى وقوله تعالى: ﴿أنه على كل شيء شهيد﴾ بدل من ربك، والمعنى: أولم يكفهم في صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء ما وقد شهد لك فيه بالإعجاز لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته ونطقت به كلماته، ففيه أعظم بشارة بتمام الدين وظهوره على المعتدين.
ولما لم يبق بعد هذا التعنت مقال ولا شبهة أصلاً لضال، قال تعالى منادياً على من جحد واستمر على عناده:
بشدائدها وتلبسهم أهوالها وهي القيامة من قوله: ﴿يوم يغشاهم العذاب﴾ (العنكبوت: ٥٥)
وقيل: هي النار من قوله تعالى: ﴿وتغشى وجوههم النار﴾ (إبراهيم: ٥٠)
﴿ومن فوقهم غواش﴾ (الأعراف: ٤١)
. وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلق. وقيل: الغاشية أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها.
﴿وجوه﴾، أي: كثيرة جدّاً كائنة ﴿يومئذ﴾، أي: يوم إذ غشيت ﴿خاشعة﴾، أي: ذليلة من الخجل والفضيحة والخوف من العذاب، والمراد بالوجوه في الموضعين: أصحابها. ﴿ {
{عاملة ناصبة﴾
، أي: ذات نصب وتعب. قال سعيد بن جبير عن قتادة: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العَرَصَات في يوم كان مقداره ألف سنة. وقال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. وقال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال ابن عباس: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى على الكفر، مثل عبدة الأوثان والرهبان وغيرهم لا يقبل الله تعالى منهم إلا ما كان خالصاً له. وعن علي أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله ﷺ فقال: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث.
وقرأ ﴿تصلى﴾ أبو عمرو وشعبة بضم التاء الفوقية على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتحها على تسمية الفاعل، والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. والمعنى: تدخل ﴿ناراً حاميةً﴾، أي: شديدة الحرّ قد أحميت وأوقدت مدّة طويلة، ومنه حمى النار بالكسر، أي: اشتدّ حرّه. وحكى الكسائي اشتدّ حمى الشمس وحموها بمعنى. قال ﷺ «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسوّدت فهي سوداء مظلمة». وقيل: المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعون فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأمّا ما شوي فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور فلا يسمى مصلياً.
ولما بين تعالى مكانهم ذكر شرابهم فقال تعالى: ﴿تسقى من عين آنية﴾، أي: شديدة الحرارة كقوله تعالى: ﴿بين حميم آن﴾ (الرحمن: ٤٤)
متناه في الحرارة. روي أنه لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
ولما ذكر تعالى شرابهم أتبعه بذكر طعامهم فقال تعالى: ﴿ليس لهم طعام إلا من ضريع﴾ قال مجاهد: هو نبت ذو شوك لاطىء بالأرض تسميه قريش الشبرق، فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه. قال الكلبي: لا تقربه دابة إذا يبس. وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار. وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه: «الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة، وأشد حرّاً من النار» قال أبو الدرداء والحسن: «إنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية لا هنيئة ولا مريئة، فلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى: ﴿وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم﴾ (محمد: ١٥)
. قال بعض المفسرين: فلما نزلت هذه


الصفحة التالية
Icon