هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا. وذكر عن النبي ﷺ أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبريل عليه السلام: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد النبي الأميّ فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله إنّ موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فردّ محمد على موسى صلى الله عليهما وسلم السلام ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة ولم تكن فريضة نزلت غير الصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت ولا يتظالموا ولا يتحاسدوا ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد قال بعض المحققين: هذا القول ضعيف وإن كان البغوي صححه لوجوه: الأوّل: كونه أقرأهم عشر سور وقد نزل عليه أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضها، الثاني: كون جبريل ذهب إليهم به ليلة الإسراء لم يرد بذلك نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث، الثالث: أنّ أحداً منهم لا يصل إلينا ولا يصل إليهم منا أحد فمن الذي أوصل خبرهم إلينا فثبت بذلك بطلان هذا القول.
فإن قيل: إنّ يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم أجيب: بالمنع فمن أين يعرف أنه لم يصل خبرنا إليهم ثم قال: فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون قد نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله ﷺ كعبد الله بن سلام وأصحابه.
﴿وقطعناهم﴾ أي: فرقنا بني إسرائيل وقوله تعالى: ﴿اثنتي عشرة﴾ حال وتأنيثه حملاً على الأمة ﴿أسباطاً﴾ بدل منه ولذلك جمع قبائل والأسباط أولاد الولد وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام ﴿أمماً﴾ بدل بعد بدل أو نعت لأسباطاً أي: وقطعناهم أمماً لأنّ كل سبط كان أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى لا تكاد تأتلف ﴿وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه﴾ أي: حين استسقوه في التيه ﴿أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست﴾ أي: انفجرت والمعنى واحد وهو الانفتاح بسعة وكثرة يقال: بجست الماء فانبجس أي: فجرته فانفجر قاله الجوهري، وعلى هذا التقرير فلا تباين بين الانبجاس المذكور هنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة، وقال آخرون: الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ثم صار كثيراً وهذا الفرق مروي عن عمرو بن العلاء.
فإن قيل: هلا قيل: فضربه فانبجست؟ أجيب: بأنه إنما حذف ذلك للإيماء على أن موسى لم يتوقف في الامتثال وإن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته ﴿منه﴾ أي: من الحجر ﴿اثنتا عشرة عيناً﴾ أي: بعدد الأسباط ﴿قد علم كل أناس﴾ أي: كل سبط منهم ﴿مشربهم﴾ أي: لا يدخل سبط على سبط في مشربهم ﴿وظللنا عليهم الغمام﴾ أي: في التيه ليقيهم من حر الشمس ﴿وأنزلنا عليهم المنّ﴾ الترنجبيل ﴿والسلوى﴾ أي: الطير السماني بتخفيف الميم والقصر جعل الله تعالى ذلك طعاماً لهم في التيه، وقيل: المنّ الخبز والسلوى الإدام، وقال ابن يحيى: السلوى طائر يشبه السماني وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية يموت إذا سمع صوت
حكمتنا أن عاتبناه حتى يستسلم، فألقى نفسه في البحر، فالتقمه الحوت، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة، وقال عطاء: سبعة أيام.
وقيل: إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة، وقيل: بلغ به تخوم الأرض السابعة، ومنعناه أن يكون له طعاماً، فنادى ﴿في الظلمات﴾ ظلمة الليل وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت وقيل: في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى: ﴿ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات﴾ (البقرة، ١٧)
وقوله: ﴿يخرجهم من النور إلى الظلمات﴾ (البقرة، ٢٥٧)، وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فجعل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر ﴿أن لا إله إلا أنت﴾ ولما نزهه عن الشريك عمم فقال تعالى: ﴿سبحانك﴾ أي: تنزهت عن كل نقص فلا يقدر على الإنجاء مما أنا فيه إلا أنت، ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله ﴿إني كنت من الظالمين﴾ أي: في خروجي من بين قومي قبل الإذن فاعف عني كما هي سيرة القادرين. روي عن أبي هريرة مرفوعاً «أوحى الله تعالى إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر؛ قال: فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى فنبذناه بالعراء وهو سقيم» فذلك قوله تعالى:
﴿فاستجبنا له﴾ أي: أجبناه ﴿ونجيناه من الغم﴾ أي: من تلك الظلمات بتلك الكلمات ﴿وكذلك﴾ أي: وكما نجيناه ﴿ننجي المؤمنين﴾ من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين قال الرازي في اللوامع: وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ثم بعده بالتسبيح والثناء، ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار، وهذا شرط كل داع١. هـ.
وعن النبي ﷺ «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له»، وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم على أنّ أصله ننجي، فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون، وهي إن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الذي لمعنى وقيل: هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وهو النجاء، وقرأ الباقون بنونين الثانية مخفاة عند الجيم.
تنبيه: اختلفوا في متى كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في سورة والصافات: ﴿فنبذناه بالعراء﴾ (الصافات، ١٤٥)، ثم ذكر بعده: ﴿وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون﴾ (الصافات، ١٤٧)، وقال آخرون: إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى: ﴿وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون﴾ (الصافات، ١٤٤)
القصة التاسعة: قصة زكريا عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿وزكريا﴾ أي: واذكر زكريا ويبدل منه ﴿إذ نادى ربه﴾ نداء الحبيب القريب فقال: ﴿رب﴾ بإسقاط أداة البعد ﴿لا تذرني فرداً﴾ أي: وحيداً من غير
والجملة قائمة مقام الفاعل وأن يكون العزيز الحكيم خبرين أو نعتين والجملة من قوله تعالى:
﴿له ما في السموات﴾ أي: من الذوات والمعاني ﴿وما في الأرض﴾ كذلك خبر أول أو ثان على حسب ما تقدم في العزيز الحكيم، قال الزمخشري: لم يقل تعالى أوحى إليك ولكن قال: يوحي إليك على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادة وكونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له، وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات وقوله تعالى: ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ يدل على كونه متصفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام وأن ما في السموات وما في الأرض خلقه وملكه.
ولما كان العلو مستلزماً للقدرة قال تعالى: ﴿وهو العلي﴾ على كل شيء علو رتبة وعظمة ومكانة لا علو مكان وملابسة ﴿العظيم﴾ بالقدرة والقهر والاستعلاء وقوله تعالى:
﴿تكاد السموات﴾ قرأه نافع والكسائي بالياء التحتية، والباقون بالفوقية وقوله تعالى ﴿يتفطرن﴾ أي: يشققن قرأه شعبة وأبو عمرو بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففة، والباقون بعد الياء بتاء فوقية مفتوحة وفتح الطاء مشددة وقوله تعالى: ﴿من فوقهن﴾ في ضميره ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه عائد على السموات أي: كل واحدة منهن تنفطر فوق التي تليها من عظمة الله تعالى أو من قول المشركين: ﴿اتخذ الله ولداً﴾ (الكهف: ٤)
كما في سورة مريم أي: يبتدئ انفطارهن من هذه الجهة فمن: لابتداء الغاية متعلقة بما قبلها، الثاني: أنه يعود على الأرضين لتقدم ذكر الأرض، الثالث: أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين قاله الأخفش الصغير، وقال الزمخشري: كلمة الكفر أي: على التفسير الثاني إنما جاءت من الذين تحت السموات فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن أي: من الجهة التي جاءت منها الكلمة ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن أي: من الجهة التي فوقهن دون الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله عز وجل ﴿يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم﴾ (الحج: ١٩ ـ ٢٠)
فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة ا. هـ.
ولما بين تعالى أن سبب كيدودة انفطارهن جلال العظمة التي منها كثرة الملائكة وشناعة الكفر، بين لها سبباً آخر وهو عظم قول الملائكة فقال تعالى: ﴿والملائكة يسبحون﴾ أي: يوقعون التنزيه لله تعالى متلبسين ﴿بحمد ربهم﴾ أي: بإثبات الكمال للمحسن إليهم تسبيحاً يليق بحالهم فلهم بذلك زجل وأصوات لا تحملها العقول ولا تثبت لها الجبال.
تنبيه: عدل عن التأنيث ولم يقل يسبحن مراعاة للفظ التذكير وضمير الجمع، إشارة إلى قوة التسبيح وكثرة المسبحين، فإن قيل: قوله تعالى: ﴿ويستغفرون لمن في الأرض﴾ عام فيدخل فيه الكفار ولقد لعنهم الله تعالى فقال سبحانه: ﴿أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ (البقرة: ١٦١)
فكيف يكونون لاعنين لهم ومستغفرين لهم؟ أجيب: بوجوه؛ الأول: أنه عام مخصوص بآية غافر ﴿ويستغفرون للذين آمنوا﴾ (غافر: ٧)، الثاني: أن قوله تعالى: ﴿لمن في الأرض﴾ لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صح ذلك، الثالث: يجوز أن يكون المراد بالاستغفار أن لا يعاجلهم
وتلذذهم بالشرب فيها رابعها: أن يكون المراد موضوعة عن حدّ الكبر، أي: هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله ﴿قدّروها تقديراً﴾ (الإنسان: ١٦)
الصفة السادسة: قوله تعالى:
﴿ونمارق﴾ وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون والراء وكسرهما لغتان أشهرهما الأولى وهي وسادة صغيرة قالت:
*نحن بنات طارق
... نمشي على النمارق*
﴿مصفوفة﴾ أي: واحدة على جنب واحدة أخرى قال الشاعر:

*كهولاً وشباناً حساناً وجوههم لهم سرر مصفوفة ونمارق*
الصفة السابعة: قوله تعالى: ﴿وزرابيّ﴾ وهي جمع زربية بفتح الزاي وكسرها لغتان مشهورتان وهي بسط عراض فاخرة. وقال ابن عباس: الطنافس التي لها خمل، أي: وبر رقيق. واختلف في قوله تعالى: ﴿مبثوثة﴾ فقال قتادة: مبسوطة. وقال عكرمة: بعضها فوق بعض. وقال الفراء: كثيرة. وقال القتيبي: مفرّقة في المجالس. قال القرطبي: وهذا أصح فهي كثيرة متفرّقة ومنه قوله تعالى: ﴿وبث فيها من كل دابة﴾ (البقرة: ١٦٤)
ولما ذكر تعالى أمر الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوه وأنكروه فذكرهم الله تعالى صنعه وقدرته بقوله تعالى:
﴿أفلا ينظرون﴾، أي: المنكرون لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة، وما ذكر فيها، والنار وما ذكر فيها، أي: نظر اعتبار. ﴿إلى الإبل﴾ ونبه على أنه عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدعاوي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام، فقال تعالى:
﴿كيف خلقت﴾، أي: خلقاً عجيباً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد النائية فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفاً ولا تنازع صغيراً وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها فتفكر، ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البرّ صبرها على احتمال العطش، حتى إنّ ظماءها لتصبر على عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المثبتة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع لأنها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا ترعاه سائر البهائم.
وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحاً القاضي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد الكناسة، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت.
تنبيه: الإبل اسم جمع واحده بعير وناقة وجمل ولا واحد لها من لفظها. وقال المبرد: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب. قال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أظهرهما: أنها الإبل، والثاني: أنها السحاب فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات والدلالات الدالة على قدرته والمنافع العامّة لجميع خلقه، وإن كان المراد بها الإبل فلأنّ الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات لأنّ ضروب الحيوان أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم وظهور القدرة فيها أتم وقيل للحسن: الفيل أعظم من الأعجوبة فقال العرب: بعيدة العهد بالفيل


الصفحة التالية
Icon