بالمدينة ونظراؤهم ﴿ومنهم﴾ أي: أناس ﴿دون ذلك﴾ أي: منحطون عن الصلاح فهم كفرتهم وفسقتهم ﴿وبلوناهم﴾ أي: اختبرناهم جميعاً الصالح وغيره ﴿بالحسنات﴾ أي: بالخصب والعافية ﴿والسيآت﴾ أي: بالجور والشدّة ﴿لعلهم يرجعون﴾ أي: كي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه. قال أهل المعاني: وكل واحد من الحسنات والسيآت يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب.
﴿فخلف من بعدهم﴾ أي: هؤلاء الذين وصفناهم ﴿خلف﴾ والخلف القرن الذي يجيء من بعد وهو بسكون اللام شائع في الشر وبفتحها في الخير يقال: خَلَف صدق بفتح اللام وخلْف سوء بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت:
*لنا القدم الأولى إليك وخلفنا | لأوّلنا في طاعة الله تابع* |
*ذهب الذين يعاش في أكنافهم | وبقيت في خلف كجلد الأجرب* |
يؤخذ﴾ من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و ﴿ألم يؤخذ﴾ اعتراض ﴿والدار الآخرة خير﴾ أي: وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير ﴿للذين يتقون﴾ الله ويخافون
بما دونه؛ لأنّ الحس مطلق الصوت أو الصوت الخفي كما قاله البغوي، فإذا زادت حروفه زاد معناه، فذكر ذلك بدلاً من مبعدون أو حال من ضميره للمبالغة في إبعادهم عنها ﴿وهم﴾ أي: الذين سبقت لهم منا الحسنى ﴿في ما اشتهت أنفسهم﴾ في الجنة كما قال تعالى: ﴿وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين﴾ (الزخرف، ٧١)
والشهوة طلب النفس اللذة ﴿خالدون﴾ أي: دائماً أبداً في غاية التنعم وتقديم الظرف للاختصاص والاهتمام به.
فائدة: في هنا مقطوعة من ما ولما كان معنى ذلك أن سرورهم ليس له زوال أكده بقوله تعالى:
﴿لا يحزنهم الفزع الأكبر﴾ قال الحسن: هو حين يؤمر بالعبد إلى النار، وقال ابن عباس: هو النفخة الأخيرة لقوله تعالى: ﴿ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض﴾ (النمل، ٧٨)، وقال ابن جريج: هو حين يذبح الموت وينادى: يا أهل النار خلود بلا موت، وقال سعيد بن جبير هو أن تنطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله تعالى منها من يريد أن يخرجه ﴿وتتلقاهم﴾ أي: تستقبلهم ﴿الملائكة﴾ قال البغوي: على أبواب الجنة يهنونهم، وقال الجلال المحلي: عند خروجهم من القبور، ولا مانع أنها تستقبلهم في الحالين ويقولون لهم: ﴿هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾ أي: هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا فيه بجميع ما يسركم، ولما كانت هذه الأفعال على غاية من الأهوال تتشوّف بها النفس إلى معرفة اليوم الذي تكون فيه قال تعالى:
﴿يوم﴾ أي: تكون هذه الأشياء يوم ﴿نطوي السماء﴾ طياً، فتكون كأنها لم تكن ثم صوّر طيها بما يعرفونه، فقال مشبهاً للمصدر الذي دل عليه الفعل ﴿كطيّ السجلّ﴾، واختلف في السجلّ فقال بعضهم: هو الكاتب الذي له العلوّ والقدرة على مكتوبه ﴿للكتاب﴾ أي: القرطاس الذي يكتبه ويرسله إلى أحد، وقال السدّي: هو ملك يكتب أعمال العباد، وقيل: كاتب كان لرسول الله ﷺ والكتاب على هذه الأقوال اسم للصحيفة المكتوب فيها، وقال ابن عباس ومجاهد والأكثرون: السجل الصحيفة والمعنى كطيّ الصحيفة على مكتوبها، والطي هو الدرج، وهو ضدّ النشر، وإنما وقع هذا الاختلاف؛ لأن السجل يطلق على الكتاب وعلى الكاتب قاله في القاموس، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الكاف والتاء على الجمع، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء، وبين الكاف والتاء ألف على الإفراد، فقراءة الإفراد لمقابلة لفظ السماء والجمع للدلالة على أن المراد الجنس، فجميع السموات تطوى.
روي عن ابن عباس أنه قال: يطوي الله تعالى السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه أي بقدرته، حتى يكون ذلك بمنزلة خردلة، وروي عن ابن عباس أنه قال: قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً أي: غير مختونين» ﴿كما بدأنا أوّل خلق نعيده﴾ أي: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً غير مختونين نعيدهم يوم القيامة؛ نظيره قوله تعالى: ﴿ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرّة﴾ (الأنعام، ٩٤)
﴿وعداً﴾ وأكد ذلك بقوله تعالى ﴿علينا﴾ وزاده بقوله تعالى: ﴿إنّا كنّا﴾ أي: أزلاً وأبداً على حالة لا تحول ﴿فاعلين﴾ أي: شأننا أن نفعل ما نريد لا كلفة علينا في شيء من ذلك، ثم إنه تعالى حقق ذلك بقوله تعالى:
﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر﴾ قال سعيد بن جبير ومجاهد الزبور جميع
ضاقت به صدورهم ﴿ما تدعوهم إليه﴾ أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم فإن تفرقتم كنتم تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود.
ثم نبه تعالى على أن الأمور كلها بيده بقوله تعالى: ﴿الله﴾ الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر ﴿يجتبي﴾ أي: يختار ﴿إليه﴾ أي: إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه ﴿من يشاء﴾ اجتباءه ﴿ويهدي إليه﴾ بالتوفيق للطاعة ﴿من ينيب﴾ أي: من يقبل إلى طاعته.
ولما بين تعالى أمر كل الأنبياء عليهم السلام والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كأن لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ أجاب بقوله تعالى:
﴿وما تفرقوا﴾ أي: المشركون من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم ﴿إلا من بعد ما جاءهم العلم﴾ أي: بالتوحيد أو بمبعث الرسول ﷺ أو بأن التفرق ضلال متوعد عليه ﴿بغياً بينهم﴾ أي: فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب ودعوا الناس إليه وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى، أي: وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ولولا كلمة﴾ أي: لا تبديل لها ﴿سبقت﴾ أي: في الأزل ﴿من ربك﴾ أي: المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم بتأخيرهم ﴿إلى أجل مسمى﴾ ضربه لآجالهم ثم يجمعهم في الآخرة ﴿لقضي﴾ على أيسر وجه وأسهله ﴿بينهم﴾ حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق، قال ابن عباس: والذين أريدوا بهذه الصفة هم اليهود والنصارى لقوله تعالى في آل عمران: ﴿وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾ (آل عمران: ١٩)
وقوله تعالى في سورة لم يكن: ﴿وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة﴾ (البينة: ٤)
وكذلك في قوله تعالى: ﴿وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم﴾ (الشورى: ١٤)
أي: المتفرقين هم اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد رسول الله ﷺ وقيل: هم هذه الأمة الذين أورثوا القرآن. ولما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات فورثوه كما قال تعالى: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا﴾ (فاطر: ٣٢)
فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازعة في ادعائه حال الوارث والموروث منه ﴿لفي شك منه﴾ أي: من كتاب لا يعلمونه كما هو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن فيقولون إنه سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك، وقيل: في شك من محمد ﷺ وجرى على ذلك الجلال المحلي ﴿مريب﴾ أي: موقع في التهمة.
﴿فلذلك﴾ أي: التوحيد ﴿فادع﴾ يا أشرف الخلق والناس ﴿واستقم﴾ أي: على الدعوة ﴿كما أمرت﴾ أي: أمرك الله تعالى ﴿ولا تتبع﴾ أي: بعمل ﴿أهواءهم﴾ في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به ﴿وقل﴾ لجميع أهل الفرق وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق ﴿آمنت بما أنزل الله﴾ أي: الذي له العظمة الكاملة ﴿من كتاب﴾ أي: جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، روي أن رجلاً أتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما الإيمان
فانطق الله تعالى لسان ابنتها فتكلمت، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً وقالت: يا أمّاه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فاسكنها الله تعالى الجنة قال: وبعث في طلب زوجها حزقيل: فلم يقدروا عليه، فقيل: لفرعون: إنه قد زوى في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون خلفه، فلما رأيا ذلك انصرفا فقال حزقيل: اللهم أنت تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل في عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة
إلى النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون: وهل معك غيرك؟ قال: نعم فلان فدعى به، فقال: حق ما يقول هذا؟ قال: لا ما رأيت كما قال شيئاً فأعطاه فرعون فأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه. قال: وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي من فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت: يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت على الماشطة فقتلتها، فقال: لعل بك الجنون الذي كان بها؟ قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فمزق ما عليها وضربها وأرسل على أبويها فدعاهما فقال لهما: ألا تريان أنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها. قالت: أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها: يا آسية ألست من خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق، قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أن يتوّجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهما فرعون: أخرجاها عني فمدّها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: ﴿رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله﴾ (التحريم: ١١)
فقبض الله تعالى روحها وأدخلها الجنة. وروي عن أبي هريرة أنّ فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحاً واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: ﴿رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة﴾ ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته.
وقوله تعالى: ﴿الذين طغوا﴾، أي: تجبروا ﴿في البلاد﴾ في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على هم الذين طغوا في البلاد، أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون فالضمير يرجع لعاد وثمود وفرعون وقيل: يرجع إلى فرعون خاصة.
﴿فأكثروا﴾، أي: طغاتهم ﴿فيها الفساد﴾، أي: بالقتل والكفر والمعاصي قال القفال: وبالجملة فالفساد ضد الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله تعالى وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
﴿فصب﴾، أي: أنزل إنزالاً هو في غاية القوة ﴿عليهم﴾، أي: في الدنيا ﴿ربك﴾، أي: المحسن إليك بكل جميل ﴿سوط﴾، أي: نوع ﴿عذاب﴾ وقال قتادة: يعني ألواناً من العذاب صبه عليهم، وقال أهل المعاني هذا على