ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها، فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب، فلعل أجلهم قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار، فيجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز والنعيم الدائم ﴿فبأيّ حديث﴾ أي: كتاب ﴿بعده﴾ أي: الكتاب الذي جاء به محمد ﷺ ﴿يؤمنون﴾ أي: يصدّقون، وليس بعد محمد ﷺ نبيّ ولا بعد كتابه كتاب؛ لأنه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم
الكتب لانقطاع الوحي بعده صلى الله عليه وسلم
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿فبأي حديث بعده يؤمنون﴾ يدل على أنّ القرآن حادث كما تمسك به بعض المعتزلة أجيب: من جهة أهل السنة: بأنّ ذلك محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حداثتها.
ثم ذكر تعالى علة إعراضهم عن الإيمان بقوله تعالى:
﴿من يضلل الله فلا هادي له﴾ بوجه من الوجوه أي: إنّ إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم ولو هداهم لآمنوا ﴿ويذرهم﴾ أي: يتركهم ﴿في طغيانهم﴾ أي: ضلالهم وتماديهم في الكفر ﴿يعمهون﴾ أي: يتردّدون متحيرين لا يهتدون سبيلاً، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: «ونذرهم» بالنون والباقون بالياء، وجزم حمزة والكسائيّ الراء قال سيبويه: إنه عطف على محلّ الفاء وما بعدها من قوله تعالى: ﴿فلا هادي له﴾ ؛ لأنّ موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط، ورفعها الباقون استئنافاً، وهو مقطوع عما قبله.
ولما بيّن تعالى التوحيد والنبوّة والقضاء والقدر أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن مبيناً ما اشتمل عليه عامة الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في أشراك الشبه بقوله تعالى:
﴿يسألونك﴾ يا محمد سؤال استهزاء ﴿عن الساعة﴾ أي: عن وقتها، واختلفوا في ذلك السائل، فقال ابن عباس: إنّ قوماً من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبياً كما تقول، فإنا نعلم متى هي، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن وقتادة: إنّ قريشاً قالوا: يا محمد بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟ والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة، أو لأنّ حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسميت بالساعة لهذا السبب، أو لأنها على طولها عند الله تعالى كساعة واحدة، وقوله تعالى: ﴿أيان﴾ سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى ﴿مرساها﴾ قال ابن عباس منتهاها والمرسى هنا مصدر بمعنى الإرساء كقوله تعالى: ﴿بسم الله مجراها ومرساها﴾ (هود، ٤١)
أي: إجراؤها وإرساؤها، والإرساء الإثبات يقال: رسا يرسو إذا ثبت قال الله تعالى: ﴿والجبال أرساها﴾ (النازعات، ٣٢)
﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿إنما علمها﴾ أي: متى تكون ﴿عند ربي﴾ أي: لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه الساعة إلا الله تعالى استأثر الله تعالى بعلمها، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولهذا لما سأل جبريل عليه السلام رسول الله ﷺ وقال: متى الساعة، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» قال المحققون: والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون، كانوا على حذر منها، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال: ﴿لا يجليها﴾ أي: يظهرها ﴿لوقتها﴾ أي: في وقتها المعين، فاللام بمعنى في وهو أولى من قول البيضاوي إنها للتأقيت ﴿إلا هو﴾
بحبل ﴿إلى السماء﴾ أي: سقف بيته يشدّ بينه وبين عنقه ﴿ثم ليقطع﴾ أي: ليختنق به بأن يقطع نفسه من الأرض كما في الصحاح. وقيل: فليمدد حبلاً إلى سماء الذنيا ثم ليصعد عليه فيجتهد في دفع نصر النبي ﷺ على الأوّل، أو يحصل رزقه على الثاني، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام والباقون بسكونها ﴿فلينظر﴾ ببصره وبصيرته ﴿هل يُذهبنّ﴾ وإن اجتهد ﴿كيده﴾ في عدم نصرة النبي ﷺ وإعلاء كلمته أو أنّ ذلك لا يغلب القسمة فإنّ الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى وهذا كما يقال لمن أدبر عنه أمر فجزع: اضرب برأسك الجدار إن لم ترض هذا، مت غيظاً ونحو ذلك، والحاصل: إن لم يصبر طوعاً صبر كرهاً واختلف في سبب نزول هذه الآية على القولالأوّل فذكروا فيها وجوهاً.
أحدها: كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم على الكفار يستبطؤن ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت.
ثانيها: قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أنّ الله لا ينصر محمداً فينقطع الذي بيننا وبين حلفائهنا من اليهود فلا يميروننا.
ثالثها: أنّ حساده وأعداءه كثيرة وكانوا يتوقعون أن لا ينصره وأن لا يعينه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك ﴿وكذلك﴾ أي: ومثل ما أنزلنا هذه الآيات لبيان حكمها وإظهار أسرارها ﴿أنزلناه﴾ أي: القرآن الباقي وقوله تعالى: ﴿آيات بينات﴾ أي: معجزاً نظمها كما كان معجزاً حكمها حال وقوله تعالى: ﴿وأنّ الله﴾ أي: الموصوف بالإكرام كما هو موصوف على محل أنزلناه.
ولما قال تعالى: ﴿وأنّ الله يهدي من يريد﴾ أنبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه، وبدأ بالقسم الأوّل بقوله: ﴿إن الذين آمنوا﴾ بالله ورسوله وعبر بالفعل ليشمل الإقرار باللسان الذي هو أدنى وجوه الإيمان ثم شرع في القسم الثاني بقوله تعالى: ﴿والذين هادوا﴾ أي: انتحلوا دين اليهودية ﴿والصابئين﴾ وهم فرقة من النصارى سميت بذلك قيل: لنسبتها إلى صابي عم نوح عليه السلام، وقيل: لخروجهم عن دين إلى دين لآخر، وإطلاق الصابئة على هذا هو المشهور وتارة يوافقونهم في أصول دينهم فتحل مناكحتهم وتارة يخالفونهم فلا تحل مناكحتهم وتطلق أيضاً على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة ويضيفون الآثار إليها وينفون الصانع المختار فهؤلاء لا تحل مناكحتهم وقد أفتى الإصطخري والمحاملي بقتلهم لما استفتى القاهر الفقهاء فيهم فبذلوا له أموالاً كثيرة فتركهم والبلاء قديم وقرأ نافع بالياء التحتية بعد الباء والباقون بهمزة مكسورة بعد الباء الموحدة ﴿والنصارى﴾ أي: الذين انتحلوا دين النصرانية ﴿والمجوس﴾ قال قتادة: هم عبدة الشمس والقمر والنيران قال: ﴿والذين اشركوا﴾ هم عبدة الأوثان قال مقاتل: الأديان كلها ستة واحد للرحمن وهو الإسلام، وخمسة للشيطان وقيل: خمسة، أربعة للشيطان، وواحد للرحمن بجعل الصابئين مع النصارى لأنهم فرع منهم كما مر على المشهور وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة ﴿إنّ الله﴾ الذي هو أحكم الحاكمين ﴿يفصل بينهم يوم القيامة﴾ بإدخال المؤمنين الجنة وغيرهم النار وأدخلت إنَّ
أي: لا غيره ﴿الذي ينزل الغيث﴾ أي: المطر الذي يغاث به الناس وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي ﴿من بعد ما قنطوا﴾ أي: يئسوا من نزوله وعلموا أنه لا يقدر على إنزاله غيره ولا يقصد فيه سواء ليكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر وقال تعالى: ﴿وينشر رحمته﴾ أي: يبسط مطره كما قال تعالى: ﴿وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته﴾ (الأعراف: ٥٧)
وإن كان الأصل بنشره لأنه بين أنه غيث فقال رحمته بياناً وتعميماً، فينزل من السحاب المحمول بالريح من الماء ما لو اجتمع عليه الخلائق ما أطاقوا عمله، فتصبح الأرض ما بين غدران وأنهار ونبات نجم وأشجار وزهر وحب وثمار وغير ذلك من المنافع الصغار والكبار فلله ما أعلى هذه القدرة الباهرة والآية الظاهرة، فيخرج من الأرض التي هي من صلابتها تعجز عنها المعاول نجماً هو في لينه ألين من الحرير وفي لطافته ألطف من النسيم ومن سوق الأشجار التي تنثني فيها المناقير أغصاناً ألطف من ألسنة العصافير، فما أجلف من ينكر إخراجه الموتى من القبور أو يحيد عن ذلك بنوع من الغرور ﴿وهو﴾ أي: لا غيره ﴿الولي﴾ الذي لا أحد أقرب منه إلى عباده في شيء من الأشياء ﴿الحميد﴾ الذي يستحق مجامع الحمد مع أنه يحمد من يطيعه فيزيده من فضله ويصل حبله دائماً بحبله.
﴿ومن آياته﴾ أي: العظيمة على استحقاقه لجميع صفات الكمال ﴿خلق السموات﴾ التي تعلمون أنها متعددة لما ترون من أمور الكواكب ﴿والأرض﴾ أي: جنسها على ما هما عليه من الهيآت وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات وقوله تعالى: ﴿وما بث﴾ أي: فرق ونشر يجوز أن يكون مجرور المحل عطفاً على السموات أو مرفوعه عطفاً على خلق على حذف مضاف، أي: وخلق ما بث، قال أبو حيان: وفيه نظر لأنه يؤول إلى جره بالإضافة لخلق المقدر فلا يعدل عنه ﴿فيهما﴾ أي: في السموات والأرض ﴿من دابة﴾ أي: شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة والحركة من الأنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات على اختلاف ألوانهم وأصنافهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وأقطارهم ونواحيهم، فإن قيل: كيف يجوز إطلاق الدابة على الملائكة؟ أجيب: بوجوه أولها: ما مر من أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة والملائكة لهم الروح والحركة، ثانيها: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحداً منهم، ومنه قوله تعالى: ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن: ٢٢)
ثالثها: قال ابن عادل: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض.
وروى العباس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «بين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش» الحديث. ﴿وهو﴾ أي: لا غيره ﴿على جمعهم﴾ أي: هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم للمحشر بعد تفريقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره ﴿إذا﴾ في وقت ﴿يشاء قدير﴾ أي: بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم يجمعهم في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينقذهم البصر ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى:
﴿وما أصابكم من مصيبة﴾ أي: بلية وشدة ﴿فبما كسبت أيديكم﴾ أي: من الذنوب، وقرأ نافع وابن عامر بغير فاء والباقون بالفاء لأن ما شرطية
الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. فإن قيل: لم نُكرت النفس؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: أنه يريد نفساً خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم عليه السلام، كأنه قال تعالى: وواحدة من النفوس.
ثانيهما: أنه يريد كل نفسٍ، ونكره للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله تعالى: ﴿علمت نفس﴾ (التكوير: ١٤)
وإنما أوثرت ما على من فيما ذكر لإرادة الوصفية بما ضمنا وإن لم يوصف بلفظها؛ إذ المراد أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثلوا بقوله تعالى: ﴿فانكحوا ما طاب لكم﴾ (النساء: ٣)
وقدّروها بأنكحوا الطيب، وهذا تنفرد به ما دون من. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم.
أقسم الله تعالى بأنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمّل المكلف فيها ويشكر عليها، لأنّ الذي يقسم الله تعالى به يحصل به روح في القلب فتكون الدواعي إلى تأمّله أقرب.
﴿فألهمها﴾، أي: النفس ﴿فجورها وتقواها﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: بين لها الخير والشرّ، وعنه: علمها الطاعة والمعصية. وعن أبي صالح: عرّفها ما تأتي وما تتقي. وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها. وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال البغوي: وهذا بين أنّ الله تعالى خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور وعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم ﷺ وثبتت الحجة عليهم؟ قلت: بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، فقال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً وقلت: إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده ﴿لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون﴾ (الأنبياء: ٢٣)
فقال لي سدّدك الله إنما سألتك لأختبر عقلك. إنّ رجلاً من جهينة أو مزينة أتى النبيّ ﷺ فقال: «يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضى الله عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به الحجة، فقال: في شيء قد مضى عليهم، قال فقلت: ففيم العمل الآن؟ قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها.
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: ﴿ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها﴾ ». وعن جابر قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل؟ قال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا وكل ميسر لما خلق له». واختلف في جواب القسم فأكثر المفسرين على أنه:
﴿قد أفلح﴾، أي: ظفر بجميع المرادات، والأصل: لقد وإنما حذفت لطول الكلام. وقيل: إنه ليس بجواب وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، والجواب محذوف تقديره: ليدمدمن الله عليهم، أي: أهل مكة لتكذيبهم رسول الله ﷺ كما دمدم على ثمود؛ لأنهم قد كذبوا صالحاً أو لتبعثن وقيل: هو على التقديم والتأخير من غير حذف.
والمعنى: ﴿قد أفلح من زكاها﴾، أي: طهرها من الذنوب ونماها وأصلحها، وصفاها تصفية عظيمة مما يسره الله تعالى له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ﴿وقد خاب﴾، أي: خسر ﴿من دساها﴾، أي: أغواها إغواءً عظيماً أو أفسدها وأهلكها