مكسورة ﴿وإخوانهم﴾ أي: وإخوان الشياطين من الكفار ﴿يمدّونهم﴾ أي: يمدّهم الشياطين ﴿في الغيّ﴾ أي: يزيدونهم في الضلالة بالتزيين والحمل عليها ﴿ثم لا يقصرون﴾ أي: لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها، وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين؛ لأنّ المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر، والكافر مستمرّ في ضلاله لا يتذكر ولا يرعوي ﴿وإذا لم تأتهم﴾ أي: أهل مكة ﴿بآية﴾ أي: مما اقترحوها كقولهم: ﴿لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً﴾ (الإسراء، ٩٠)
﴿قالوا لولا اجتبيتها﴾ أي: هلا تقولتها من عند نفسك كسائر ما تقرؤه، فإنهم كانوا يقولون: إنّ هذا الإفك مفترى، تقول العرب: اجتبيت الكلام اختلقته وافتعلته وأنشأته من عندك، وهلا طلبتها من ربك منزلة عليك مقترحة؟ قال الله تعالى: ﴿قل﴾ : يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات ﴿إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي﴾ أي: ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور إنما أنتظر الوحي، فكل شيء أكرمني به قلته، وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح.
ثم بيّن أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض؛ لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة، فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة، فكان طلب الزيادة من باب التعنت، فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أوّلها قوله: ﴿هذا بصائر من ربكم﴾ أي: هذا القرآن فيه حجة وبرهان، وأصل البصائر الأبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان، ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب.
وثانيها: ﴿وهدى﴾ أي: وهو هدى.
وثالثها: ﴿ورحمة﴾ أي: وهو رحمة ﴿لقوم يؤمنون﴾.
فإن قيل: ما الفرق بين هذه المراتب الثلاث؟ أجيب: بأنهم متفاوتون في درجات العلوم، فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر، وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين، وهم أصحاب حق اليقين، فالقرآن في حق القسم الأوّل، وهم السابقون بصائر، وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى، وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
﴿وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا﴾ أي: عن الكلام ﴿لعلكم ترحمون﴾ أي: لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمرتم به من أوامره، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية فذهب قوم إلى أنها نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإمام والإنصات.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت والاستماع إلى قراءة القرآن، وقال قوم: نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصعات وهم خلف رسول الله ﷺ في الصلاة، وقال الكلبي: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، وعن ابن مسعود أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرفوا قال: أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله، وهو قول الحسن والزهري: إن الآية نزلت في القرآن في الصلاة.
وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد إنّ الآية نزلت في الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الإمام يوم الجمعة، وقال عمر بن عبد
يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بعد الموت بمثل ذلك ﴿رجالاً﴾ أي: مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام ﴿و﴾ ركباناً ﴿على كل ضامر﴾ أي: بعير مهزول وهو يطلق على الذكر والأنثى.
تنبيه على كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجلاً وركباناً وقوله تعالى: ﴿يأتين﴾ صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع ﴿من كل فج﴾ أي: طريق واسع بين جبلين ﴿عميق﴾ أي بعيد روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبيّ ﷺ أنه قال: «الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال كل حسنة بمائة ألف حسنة» وفي هذا دلالة على أنّ المشي أفضل من الركوب وفي ذلك خلاف بين الأئمة محله كتب الفقه.
ولما كان الإنسان ميالاً إلى الفوائد متشوفاً إلى جميل العوائد علل الإتيان بما يرغبه مبيحاً من فضله ما يقصده من أمر المعاش بقوله تعالى: ﴿ليشهدوا﴾ أي: ليحضروا حضوراً تاماً ﴿منافع لهم﴾ واختلف في تلك المنافع فبعضهم حملها على منافع الدنيا وهي أن يتجروا في أيام الحج وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً وهو كما قال الرازي أولى فيأتون لتلك المنافع يتنقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى مشعر، ومن مشهد إلى مشهد، مجموعين بالدعوة، خاشعين بالهيبة، خائفين من السطوة، راجين للمغفرة، ثم يتفرّقون إلى منازلهم ومواطنهم ويتوجهون إلى مساكنهم كالسائرين إلى مواقف الحشر يوم البعث والنشر، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم، فيا أيها المصدقون بأنّ خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله تعالى حجه على بعد أقطارهم وتناي دارهم ممن كان موجوداً في ذلك الزمان وممن كان في ظهور الآباء والأمّهات الأقربين والأبعدين صدّقوا أنّ الداعي من قبلنا بالنفح في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار تراباً وما بين ذلك لأنّ الكل علينا يسير، قال الزمخشريّ: وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات كلها قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
ولما كانت المنافع لا تطيب ولا تثمر إلا بالتقوى وكان الحامل على التقوى ذكر الله تعالى قال تعالى: ﴿ويذكروا اسم الله﴾ أي: الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره وقيل كنى بالذكر عن الذبح لأنّ ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهاً على أنّ المقصود مما يتقرّب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه.
واختلف في الأيام المعلومات في قوله تعالى ﴿في أيام معلومات﴾ فالذي عليه أكثر المفسرين وهو اختيار الشافعيّ وأبي حنيفة أنه عشر ذي الحجة واحتجوا بأنها معلومة عند الناس بحرصهم على علمّها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام، ولتلك الذبائح وقت منها وهو يوم النحر وعن ابن عباس أنها أيام التشريق وقيل يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وقيل يوم النحر إلى آخر أيام التشريق واستدلّ لهذا بقوله تعالى ﴿على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ وهي الإبل والبقر والغنم من الهدايا والضحايا أي: يذكروا اسم الله تعالى عند نحرها ونحر الضحيا والهدايا يكون في هذه الأيام وتقدّم الكلام على الأيام المعدودات في سورة البقرة عند قوله تعالى: {واذكروا الله
لأن أكثر الأفعال بها ﴿فإن الإنسان﴾ أي: الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب سيئة تضره ﴿كفور﴾ أي: بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولم يتأمل سببها وتصدير الشرطية الأولى: بإذا، والثانية: بإن لأن إذاقته النعمة محققة من حيث إنها عادة مقضيّة بالذات بخلاف إصابة البلية وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضعه الضمير في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، فإن كان في نعمة أشر وبطر، وإن كان في نقمة أيس وقنط، فهذا حال الجنس من حيث هو ومن وفقه الله تعالى جنبه ذلك كما قال ﷺ «المؤمن إن أصابه سراء
شكر فكان خيراً، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً».
ولما ذكر تعالى إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها السيئة أتبع ذلك بقوله تعالى:
﴿لله﴾ أي: الملك الأعظم وحده ﴿ملك السموات﴾ كلها على علوها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها ﴿والأرض﴾ جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها ﴿يخلق﴾ أي: على سبيل التجدد والاختيار والاستمرار ﴿ما يشاء﴾ وإن كان على غير اختيار العباد لئلا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له ذلك القدر إنعاماً من الله تعالى عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد الطاعة.
ثم ذكر من أقسام تصرفه تعالى في العالم أنه يخص بعض الناس بالأولاد الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض محروم من الكل كما قال تعالى: ﴿يهب﴾ أي: يخلق ﴿لمن يشاء﴾ أولاداً ﴿إناثاً﴾ فقط ليس معهن ذكر ﴿ويهب لمن يشاء الذكور﴾ فقط ليس معهم أنثى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بتسهيل الهمزة الثانية كالياء وتبدل أيضاً واواً خالصة، والباقون بتحقيقهما وفي الابتداء الجميع بالتحقيق، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المد والتوسط والقصر ولهما أيضاً تسهيلها مع المد والقصر والروم والإشمام.
﴿أو يزوجهم﴾ أي: الأولاد فيجعلهم أزواجاً أي: صنفين حال كونهم ﴿ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً﴾ أي: لا يولد له.
قال الرازي: وفي الآية سؤالات؛ الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً ثم قدم الذكور على الإناث ثانياً فما السبب أي: فما الحكمة في هذا التقديم والتأخير؟ الثاني: أنه نكر الإناث وعرف الذكور، وقال في الصنفين معاً: أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً؟ الثالث: أنه لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي: حاجة في عدم حصوله إلى قوله تعالى: ﴿ويجعل من يشاء عقيماً﴾ الرابع: هل المراد بهذا الحكم جمع معينون أو الحكم على الإنسان المطلق ثم قال: والجواب عن الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطى الذكر بعدها فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطى الذكر أولاً ثم أعطى الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً ثم ثنى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم، قيل: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، وأما تقديم ذكر الذكور على ذكر الإناث ثانياً فلأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل مقدم على المفضول، وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف
إشارة إلى أن ساعة من نهار توازن جميع الليل كما أن محمداً ﷺ يوازن جميع الأنبياء عليهم السلام، وأيضاً الضحى وقت السرور والليل وقت الوحشة ففيه إشارة إلى أنّ سرور الدنيا أقل من شرورها، وأنّ هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإنّ الضحى ساعة والليل ساعات.
ويروى أنّ الله تعالى لما خلق العرش أظلت عمامة سوداء ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت: أن امطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً، وقدّم ذكر الضحى وأخر الليل؛ لأنه يشبه الموت.
وقوله تعالى: ﴿ما ودّعك﴾، أي: تركك يا أشرف الرسل تركاً تحصل به فرقة كفرقة المودّع، ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع ﴿ربك﴾، أي: المحسن إليك جواب القسم ﴿وما قلى﴾، أي: وما أبغضك بغضاً ما، وتركت الكاف لأنه رأس آية كقوله تعالى: ﴿والذاكرين الله كثيراً والذاكرات﴾ (الأحزاب: ٣٥)
أي الله.
تنبيه: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال أحدها ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال: «اشتكى رسول الله ﷺ ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب، فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث» فنزلت.
ثانيها: ما روى أبو عمرو قال: «أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ ﷺ حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية».
ثالثها: ما روي «أنّ خولة كانت تخدم النبيّ ﷺ فقالت: إنّ جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ ﷺ أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال ﷺ يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه السلام لا يأتيني قالت خولة: فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله ﷺ ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة.
ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي ﷺ عن التأخير فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة».
رابعها: ما روي «أنّ اليهود سألوا النبيّ ﷺ عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف؟ فقال ﷺ سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: ﴿ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله﴾ (الكهف: ٢٣)
فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت ﴿ما ودّعك ربك﴾ » واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه. فقال ابن جرير: اثنا عشر يوماً. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً. وقال مقاتل: أربعون يوماً. قالوا: وقال المشركون: إنّ محمداً ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ ﷺ «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك؟ فقال جبريل عليه السلام: إني كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى: ﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك﴾ » (مريم: ٦٤)
﴿وللآخرة﴾ التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خاصة عن شوائب الكدر ﴿خير لك﴾، أي: لما فيها من الكرامات لك ﴿من الأولى﴾، أي: الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص وقيد تعالى بقوله سبحانه: ﴿لك﴾ لأنها ليست خيراً لكل أحد.
قال البقاعي: إنّ الناس على أربعة أقسام: منهم من له