النون المؤكدة في جواب الأمر؟ أجيب: بأنّ فيه معنى النهي كقولك: انزل عن الدابة لا تطرحك ولا تطرحنك، وكقوله تعالى: ﴿يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان﴾ (النمل، ١٨)
﴿واعلموا أنّ الله شديد العقاب﴾ لمن خالفه.
﴿واذكروا﴾ يا معاشر المهاجرين ﴿إذ أنتم﴾ في أوائل الإسلام ﴿قليل﴾ أي: عددكم ﴿مستضعفون﴾ أي: لا منعة لكم ﴿في الأرض﴾ أي: أرض مكة، وإطلاقها لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، أو لأنّ حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولهذا عبر بالناس في قوله تعالى: ﴿تخافون أن يتخطفكم الناس﴾ أي: تأخذكم الكفار بسرعة كما تتخطف الجوارح الصيد ﴿فآواكم﴾ إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصنون فيه على أعدائكم ﴿وأيدكم﴾ أي: قوّاكم ﴿بنصره﴾ أي: بإمداد الملائكة يوم بدر، وبمظاهرة الأنصار ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ أي: الغنائم أحلها لكم، ولم يحلها لأحد قبلكم ﴿لعلكم تشكرون﴾ هذه النعم العظيمة.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول﴾ أي: بأن تضمروا خلاف ما تظهرون.
روي أنه ﷺ حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله ﷺ الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشام فأبى رسول الله ﷺ أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة واسمه رفاعة، أو مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم؛ لأنّ ماله وعياله عندهم، فبعثه رسول الله ﷺ إليهم، فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح أي: حكم سعد هو القتل، فلا تفعلوا، فقال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق على وجهه، ولم يأت رسول الله ﷺ وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ، فلما بلغ رسول الله ﷺ قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأمّا إذ فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه، فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك، فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي، فقال له ﷺ «يجزيك الثلث أن تتصدّق به» فنزلت هذه الآية.
وعن المغيرة نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعن جابر بن عبد الله أنّ أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبيّ ﷺ خروجه وعزم الذهاب إليه، فكتب رجل من المنافقين إليه: إنّ محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فنزلت، وقيل: معنى لا تخونوا الله بأن لا تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به، وأصل الخون النقص كما أنّ أصل الوفاء التمام، واستعماله في ضدّ الأمانة لتضمنه إياه، وقوله تعالى: ﴿وتخونوا أماناتكم﴾ أي: ما إئتمنتم عليه من الدين وغيره مجزوم بالعطف على الأوّل أي: ولا تخونوا، أو منصوب بأن مضمرة بعد الواو على جواب النهي أي: لا تجمعوا بين الخيانتين كقوله:
*لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله*
﴿وأنتم تعلمون﴾
ذلك شديداً على النفس لتشوقها إلى النصرة رجاه في ذلك بقوله تعالى مستأنفاً تحذيراً لهم:
﴿الله﴾ أي: الذي لا كفء له ﴿يحكم بينكم﴾ أي: بينك مع اتباعك وبينهم ﴿يوم القيامة﴾ الذي هو يوم التغابن ﴿فيما كنتم فيه تختلفون﴾ من أمر الدين ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حلّ به، فهو كقوله: ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ (الشعراء، ٢٢٧)
؛ قال البغوي: والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.
﴿ألم تعلم أنّ الله﴾ بجلال عزه وعظيم سلطانه ﴿يعلم ما في السماء والأرض﴾ فلا يخفى عليه شيء ﴿إن ذلك﴾ أي: ما ذكر ﴿في كتاب﴾ كتب فيه كل شيء حكم بوقوعه قبل وقوعه، وكتب جزاؤه وهو اللوح المحفوظ ﴿إن ذلك﴾ أي: علم ما ذكر ﴿على الله﴾ وحده ﴿يسير﴾ أي: سهل؛ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على السواء.
﴿ويعبدون﴾ أي: المشركون على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿من دون الله﴾ أي: من أدنى رتبة من رتبه الذي قامت جميع الدلائل على احتوائه على جميع صفات الكمال وتنزيهه عن شوائب النقص ﴿ما لم ينزل به سلطاناً﴾ أي: حجة واحدة من الحجج وهو الأصنام ﴿وما ليس لهم به علم﴾ حصل لهم من ضرورة العقل واستدلاله بالحجة ﴿وما للظالمين﴾ أي: الذين وضعوا التعبد في غير موضعه لارتكابهم لهذا الأمر العظيم الخطر، وأكد النفي واستغرق المنفي بإثبات الجار، فقال تعالى: ﴿من نصير﴾ أي: ينصرهم من الله لا مما أشركوه به ولا من غيره فيدفع عنهم عذابه أو يقرّر مذهبهم.
﴿وإذا تتلى﴾ أي: على سبيل التحذير والمبالغة من أيّ تال كان ﴿عليهم آياتنا﴾ أي: من القرآن حال كونها ﴿بينات﴾ لا خفاء فيها عند من له بصيرة في شيء مما دعت إليه من الأصول والفروع ﴿تعرف في وجوه الذين كفروا﴾ أي: تلبسوا بالكفر ﴿المنكر﴾ أي: الإنكار الذي هو منكر في نفسه، فيظهر أثره في وجوههم من الكراهة والعبوس لما حصل لهم من الغيظ، ثم بيّن ما لاح في وجوههم بقوله تعالى: ﴿يكادون يسطون﴾ أي: يوقعون السطوة بالبطش والعنف ﴿بالذين يتلون عليهم آياتنا﴾ أي: الدالة على أسمائنا الحسنى وصفاتنا العليا القاضية بوحدانيتنا مع كونها بينات في غاية الوضوح في أنها كلامنا لما فيها من الحكم والبلاغة التي عجزوا عنها، ثم أمر الله تعالى رسوله ﷺ أنّ يقابلهم بالوعيد بقوله تعالى: ﴿قل أفأنبئكم﴾ أي: أفأخبركم خبراً عظيماً ﴿بشر من ذلكم﴾ بأكره إليكم من القرآن المتلوّ عليكم، وقوله تعالى: ﴿النار﴾ كأنه جواب سائل قال: ما هو؟ فقيل: النار، أي: هو النار، ويجوز أنّ تكون مبتدأ خبره ﴿وعدها الله الذين كفروا﴾ جزاء لهم فبئس الموعد هي ﴿وبئس المصير﴾ أي: النار، ولما بين تعالى أنه لا حجة لعابد غيره اتبعه بأنّ الحجة قائمة على أنّ ذلك الغير في غاية الحقارة، فقال تعالى منادياً أهل العقل منبهاً تنبيهاً عاماً:
﴿يا أيها الناس ضرب مثل﴾ حاصله أنّ من عبدتموه من الأصنام أحقر منكم ﴿فاستمعوا﴾ أي: أنصتوا ﴿له﴾ وتدبروه، ثم فسره بقوله تعالى: ﴿إن الذين تدعون﴾ أي: تعبدون وتدعونهم في حوائجكم وتجعلونهم آلهة ﴿من دون الله﴾ أي: الملك الأعلى من هذه الأصنام التي أنتم بها مغترّون ﴿لن يخلقوا ذباباً﴾ أي: لا قدرة لهم على ذلك في زمن من الأزمان على حال من الأحوال مع صغره فكيف بما هو أكبر منه ﴿ولو اجتمعوا﴾ أي: الذين زعمتموهم شركاء ﴿له﴾ أي: الخلق فهم
﴿أوتهدي العمي﴾ الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية الخسارة روي أنه ﷺ «كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وعناداً في الغي فنزلت». أي: هم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي وقوله تعالى ﴿ومن كان﴾ أي: جبلة وطبعاً ﴿في ضلال مبين﴾ عطف على العمي باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى بين في نفسه أنه ضلال وأنه محيط بالضال، يظهر لكل أحد ذلك فهو بحيث لا يخفى على أحد فالمعنى: ليس شيء من ذلك إليك بل هو إلى الله تعالى القادر على كل شيء وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ فلا تتعب نفسك.
﴿فإما نذهبن بك﴾ أي: من بين أظهرهم بموت أو غيره وما مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة ﴿فإنا منهم﴾ أي: من الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لم تنفعهم مشاعرهم ﴿منتقمون﴾ أي: بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم.
﴿أو نرينك﴾ وأنت بينهم ﴿الذي وعدناهم﴾ أي: من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه ﴿فإنا﴾ أي: بما لنا من العظمة التي أنت أعلم الخلق بها ﴿عليهم﴾ أي: على عقابهم ﴿مقتدرون﴾ على كلا التقديرين، وأكد بأن لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته وكذا بالإتيان بنون العظمة وصيغة الافتعال.
﴿فاستمسك﴾ أي: اطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال من أحوال الإمساك ﴿بالذي أوحى إليك﴾ من حين نبوتك إلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره ﴿إنك على صراط﴾ أي: طريق واسع واضح جداً ﴿مستقيم﴾ أي: موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج.
﴿وإنه﴾ أي: الذي أوحى إليك في الدين والدنيا ﴿لذكر﴾ أي: لشرف عظيم جداً وموعظة وبيان ﴿لك ولقومك﴾ قريش خصوصاً لنزوله بلغتهم والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ «كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك قال: لقريش». وروى ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان». وروى معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين». وقال مجاهد: القوم هم العرب فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل: ذكر لك بما أعطاك من الحكمة ولقومك من المؤمنين بما هداهم الله تعالى به ﴿وسوف تسألون﴾ أي: عن القرآن يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقال الكلبي: تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل، وقال مقاتل: يقال لمن كذب به لم كذبت؟ فيسأل سؤال توبيخ وقيل: يسألون هل عملتم بما دل عليه القرآن من التكاليف. وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أسري بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى إلى السموات العلى بعث له آدم وولده من
التنبيه عليه.
والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه، وهو قوله تعالى: ﴿في ليلة القدر﴾.
﴿وما أدراك﴾ أي: أعلمك يا أشرف الخلق ﴿ما ليلة القدر﴾ فإن في ذلك تعظيماً لشأنها. روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله ﷺ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي ﷺ عشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة، ولا بين جبريل وبين محمد ﷺ واسطة، وعن الشعبي: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفاً، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه: خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن. وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم السلام، كقوله تعالى: ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ (الدخان: ٤)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وهذا يصلح أن يكون جمعاً بين القولين في قوله تعالى: ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ فإنه قيل فيها: إنها ليلة النصف من شعبان وقيل: ليلة القدر وحينئذ لا خلاف، وقيل: سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى: ﴿ومن قدر عليه رزقه﴾ (الطلاق: ٧)
وقيل: سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها من قولهم: لفلان قدر، أي: شرف ومنزلة قاله الأزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لأن للطاعة قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال: أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة، ويعرّفهم إياه، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل قيل: للحسين بن الفضل: أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، قال نعم، قيل له: فما معنى ليلة القدر، قال: سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدّر.
واختلفوا هل هي باقية أو لا؟ فقيل: إنها كانت مرّة ثم انقطعت، وقيل: إنها رفعت بعد النبي ﷺ والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال: قلت لأبي بكر: زعموا أن ليلة القدر قد رفعت، قال: كذب من قال ذلك، قلت: هي في كل شهر رمضان أستقبله، قال: نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب، أم هي في كل عام، فقال: بل هي لأمة محمد ﷺ ما بقي منهم اثنان، واستدل من قال برفعها بقوله ﷺ حين تلاحى الرجلان: «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم» وهذا غفلة من هذا