لو كانوا مستطيعين، وقرّعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا بسورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصاً في باب البيان، وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً؛ لأنه كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار العجم ويحدّث بها أهل مكة، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فكأنه كان قاضيهم، وقد أسره المقداد يوم بدر، فأمر النبيّ ﷺ بقتله، فقال المقداد: أسيري يا رسول الله؟ فقال: «إنه كان يقول في كتاب الله تعالى ما يقول» فعاد المقداد لقوله، فقال النبيّ ﷺ «اللهمّ أغن المقداد من فضلك» فقال: ذاك الذي أردت يا رسول الله فقتله النبيّ ﷺ فأنشدت أخته:

*ما كان ضرك لو مننت وربما منّ الفتى وهو المغيظ المحنق*
فقال النبيّ ﷺ «لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه» ﴿إن﴾ أي: ما ﴿هذا﴾ أي: القرآن ﴿إلا أساطير الأوّلين﴾ أي: أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم، وما سطر الأوّلون في كتبهم، والأساطير جمع أسطورة وهي المكتوبة من قولهم سطرت أي: كتبت وقيل: أساطير جمع أسطور وأسطار جمع سطر.
﴿وإذ قالوا اللهمّ إن كان هذا﴾ أي: الذي يقرؤه محمد ﴿هو الحق﴾ المنزل ﴿من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾ أي: مؤلم على إنكاره غير الحجارة قاله النضر وغيره، استهزاء وإيهاماً أنه على بصيرة وجزم ببطلانه.
وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال: أجهل من قومي قومك قالوا: ﴿اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك﴾ الآية، وما قالوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه.
فإن قيل: قد حكى الله تعالى هذه المقالة عن الكفار، وهي من حسن نظم القرآن، فقد حصلت المعارضة في هذا القدر، وأيضاً حكي عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل، وقالوا: ﴿لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً﴾ (الإسراء، ٩٠)
الآية، وذلك أيضاً كلام الكفار، فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن وذلك يدل على حصول المعارضة، أجيب: بأنّ الإتيان بهذا القدر لا يكفي في حصول المعارضة؛ لأنه كلام قليل لا تظهر فيه وجوه المعارضة والفصاحة والبلاغة؛ لأنّ أقل ما وقع به التحدي سورة أو قدرها قال الله تعالى:
﴿وما كان الله ليعذبهم﴾ أي: بما سألوه ﴿وأنت فيهم﴾ أي: لأنّ العذاب إذا نزل عمّ، ولم يعذب أمّة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها ﴿وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون﴾ أي: وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله ﷺ من المستضعفين.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كان في هذه الأمّة أمانان أما النبيّ ﷺ فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة، فاللفظ وإن كان عامّاً إلا أنّ المراد بعضهم كما يقال قدم أهل البلدة الفلانية على القتال والمراد بعضهم.
﴿وما لهم أن لا يعذبهم الله﴾ بالسيف بعد خروجك والمستضعفين، فنفى تعالى في الآية أنه لا يعذبهم ما دام الرسول والمؤمنون فيهم، وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم إذا خرجوا من بينهم، وقال الحسن: الآية الأولى منسوخة بهذه، وردّ بأنّ الأخبار لا يدخلها النسخ، واختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم: لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر، وقيل: يوم فتح مكة، وقال ابن عباس: هذا العذاب هو عذاب
في تهذيب النفس وإخلاص العمل ختم به فقال تعالى:
﴿وجاهدوا في الله﴾ أي: لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس، وقول البيضاوي: وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». حديث رواه البيهقي وضعف إسناده، وقال غيره: لا أصل له، قيل: أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس ﴿حق جهاده﴾ أي: باستفراغ الطاقة في كل ما أمر به من جهاد العدوّ والنفس على الوجه الذي أمر به من الحج والغزو وغيرهما.
فإن قيل: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس في حق الجهاد في الله أو حق جهادكم في الله، كما قال تعالى: ﴿وجاهدوا في الله﴾ ؟ أجيب: بأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث أنه مفعول لأجله صحت إضافته إليه، وعن مجاهد عن الكلبي أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ (التغابن، ١٦)، ولما أمر الله تعالى بهذه الأوامر أتبعها ببعض ما يجب به شكره وهو كالتعليل لما قبله فقال تعالى: ﴿هو اجتباكم﴾ أي: اختاركم لدينه ولنصرته، وجعل الرسالة فيكم والرسول منكم وجعله أشرف الرسل، ودينه أشرف الأديان، وكتابه أعظم الكتب، وجعلكم لكونكم أتباعه خير الأمم ﴿وما جعل عليكم في الدين﴾ أي: الذي اختاره لكم ﴿من حرج﴾ أي: من ضيق وشدّة وهو أنّ المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله تعالى له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها بردّ المظالم والقصاص، وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفقه الله تعالى وسهله عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة والفطر للمريض والمسافر، وغير ذلك؛ قال ﷺ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري، وعن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، وقوله تعالى: ﴿ملة أبيكم﴾ نصب بنزع الخافض وهو الكاف أو على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أي: اتبعوا ملة أبيكم، أو على الاختصاص أي: أعني بالدين ملة أبيكم كقولك: الحمد لله الحميد، وقوله تعالى: ﴿إبراهيم﴾ عطف بيان.
فإن قيل: لم كان إبراهيم أباً للأمة كلها؟ أجيب: بأنه أبو رسول الله ﷺ فكان أباً لأمّته؛ لأنّ أمّة الرسول في حكم أولاده. واختلف في عود ضمير ﴿هو﴾ على قولين أحدهما أنه يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ لكل نبيّ دعوة مستجابة، ودعوة إبراهيم عليه السلام: ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك﴾، فاستجاب الله تعالى له فجعلها محمداً ﷺ وأمّته، والثاني: أنه يعود على الله تعالى في قوله تعالى: ﴿هو اجتباكم﴾، وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال إن الله تعالى ﴿سمّاكم المسلمين من قبل﴾ أي: في كل الكتب المنزلة التي نزلت قبل إنزال هذا لقرآن ﴿وفي هذا﴾ أي: وسماكم في هذا القرآن الذي أنرل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب، وهذا القول كما قال الرازي: أقرب لأنه تعالى قال: ﴿ليكون الرسول شهيداً عليكم﴾ أي: يوم القيامة أنه بلغكم ﴿وتكونوا شهداء على الناس﴾ أي: أنّ رسلهم
أي: فهلا ﴿ألقي عليه﴾ عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة ﴿أساورة﴾ وقرأ حفص بسكون السين ولا ألف بعدها كالأحمرة، والباقون بفتح السين وألف بعدها فأسورة جمع سوار كحمار وأحمرة وهو جمع قلة وأساور جمع أسوار بمعنى سوار يقال: سوار المرأة وإسوارها والأصل: أساوير بالياء فعوض من حرف المد تاء التأنيث كزنديق وزنادقة وبطريق وبطارقة، وقيل: بل هي جمع أسورة فهي جمع الجمع قاله الزجاج، والسوار ما يوضع في المعصم من الحلية ﴿من ذهب﴾ ليكون ذلك إمارة له على صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات، إذ كان من عادتهم أنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فطلب فرعون من موسى عليه السلام مثل عادتهم ﴿أو جاء معه﴾ أي: صحبته عندما جاء إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم ﴿الملائكة﴾ أي: هذا النوع وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله: ﴿مقترنين﴾ أي: يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه فأهلكه الله تعالى بها، إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله تعالى أهلكه الله به واستصغر موسى عليه السلام وعابه بالفقر والعي فسلطه الله تعالى عليه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه، أفاده القشيري.
﴿فاستخف﴾ أي: بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب ﴿قومه﴾ الذين لهم قوة عظيمة فحملهم بغروره على ما كانوا مهينين له من خفة الحلم ﴿فأطاعوه﴾ أي: بأن أقروا بملكه واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه السلام ﴿أنهم كانوا﴾ أي: بما في جبلاتهم من الشر ﴿قوماً فاسقين﴾ أي: غريقين في الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
﴿فلما آسفونا﴾ أي: أغضبونا في الإفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد فقال: قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول: ﴿فلما آسفونا﴾ أي: أغضبونا ﴿انتقمنا منهم﴾ أي: أوقعنا بهم على وجه المكافأة بما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج ﴿فأغرقناهم أجمعين﴾ أي: إهلاك نفس واحدة لم يلفت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم.
تنبيه: ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى وذكر لفظ الانتقام كل واحد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى: إرادة العذاب ومعنى الانتقام: إرادة العقاب بجرم سابق وقال بعض المفسرين: معنى آسفونا: احزنوا أولياءنا.
﴿فجعلناهم﴾ أي: بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه ﴿سلفاً﴾ أي: متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة أو قدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون
إلى أربابها. وقيل: يقدّر في ليلة النصف من شعبان الآجال والأمراض، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة.
الوجه الثاني: من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره.
﴿تنزل﴾ أي: تنزلاً متدرجاً متواصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء ﴿الملائكة﴾ أي: إلى الأرض. روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى ﴿والروح﴾ أي: جبريل عليه السلام ﴿فيها﴾ أي: في الليلة ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبيّ ﷺ ولواء على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر سيناء، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم، يقول: يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله ﷺ قال: «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله تعالى». وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون، وظاهر الآية نزول الجميع وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجاً فوجاً كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجاً بعد فوج، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة، أي: ينزل فوج ويصعد فوج والله أعلم بذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى، وقال بعضهم: الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس أعظم من الدنيا، وفي كل رأس ألف وجه، وفي كل وجه ألف فم، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السموات السبع سجداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد ﷺ بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر.
وعن عليّ أنه ﷺ قال: «رأيت ليلة أسري بي ملكاً رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى، ورأسه من السماء السابعة العليا، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحاً لا يسبحه العضو الآخر، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السموات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة، كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة، وهو رأس الملائكة». وقيل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. ﴿بإذن ربهم﴾ أي: بأمر المحسن إليهم المربي لهم ﴿من كل أمر﴾ أي: قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان، ومن سببية بمعنى الباء.
الوجه الثالث: فضائلها ما ذكره تعالى بقوله سبحانه:
﴿سلام﴾ أي: عظيم جدّاً، وهو خبر مقدّم والمبتدأ. ﴿هي﴾ جعلت سلاماً لكثرة السلام فيها من الملائكة لا يمرّون بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه وستمرّون


الصفحة التالية
Icon