ويكون المراد حينئذٍ أنه ليس لها شفاعة فتقبل كما قال تعالى حاكياً عنهم ﴿فما لنا من شافعين﴾.
ومنها: أنّ الآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم.
ومنها: أنها لا تشفع إلا بإذن الله.
﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ نجيناكم﴾ أي: آباءكم الخطاب به وبما بعده للموجودين في زمن نبينا ﷺ بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله ليؤمنوا ﴿من آل فرعون﴾ أي: أتباعه وأهل دينه، والمشهور أن أصل آل: أهل، لأن تصغيره أهيل، وقال الكسائيّ وغيره: أصله أول من آل يؤل أي: رجع، قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وتصغيره أويل.
فإن قيل: يردّ الأوّل اختلاف أهل وآل معنى إذ الأهل القرابة والآل من يؤل إليك بقرابة أو رأي أو مذهب ولأن الألف يثبت إبدالها من الهاء. أجيب: بأن القائل بالأول جرى على القول بأن اللفظتين بمعنى، أو أراد بالأهل أحد معاني آل وأبدل الواو من الهاء لتقاربهما مخرجاً، وخص بالاضافة إلى أولي القدر والشرف كالأنبياء والملوك، وإنما قيل آل فرعون لتصوره بصورة الأشراف أو لشرفه في قومه عندهم، وفرعون هو الوليد ابن مصعب بن ريان وكان من القبط من العمالقة وعمر أكثر من أربعمائة سنة ﴿يسومونكم﴾ يولونكم ويذيقونكم ﴿سوء العذاب﴾ أي: أشدّه، والجملة حال من الضمير في نجيناكم، أو من آل فرعون، أو منهما جميعاً لأنّ فيها ضمير كل واحد منهم ﴿يذبحون أبناءكم﴾ المولودين ﴿ويستحيون نساءكم﴾ أي: يتركونهنّ أحياء، هذا بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف وذلك أنّ فرعون لعنه الله رأى في منامه كأنّ ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرّض لبني إسرائيل فهاله ذلك، وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا: يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن: لا يسقطنّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت ووكل بالقوابل فكنّ يفعلن ذلك حتى قيل: إنه قتل في طلب موسى اثني عشر ألف صبيّ، وقال وهب: بلغني أنه ذبح في طلب موسى تسعين ألفاً، قالوا: وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا: إن
الموت قد وقع في بني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها ﴿وفي ذلكم بلاء﴾ إن أشير به إلى صنيعهم فهو محنة أو إلى الإنجاء فهو نعمة فإنّ البلاء يكون بمعنى الشدّة وبمعنى النعمة ويجوز أن يشار بذلكم إلى الأمرين فالله تعالى قد يختبر على النعمة بالشكر وعلى الشدّة بالصبر قال تعالى: ﴿ونبلوكم﴾ (الأنبياء، ٣٥) أي: نختبركم بالشرّ والخير فتنة ﴿من ربكم﴾ أي: بتسليطهم عليكم، أو ببعثة موسى وتوفيقه لتخليصكم، أو بهما، وقوله تعالى: ﴿عظيم﴾ صفة بلاء. وفي الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ إختبار من الله تعالى فعليه أن يشكر عند مسارّه ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين.
﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ فرقنا﴾ فلقنا ﴿بكم﴾ أي: بسببكم ﴿البحر﴾ حتى دخلتموه هاربين من عدوّكم وذلك أنّ فرعون لما دنا هلاكه أمر الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر ليلاً فأمر موسى
الجانب الصحيح، والذي نعلمه أنها كانت في السعة بحيث تسع المؤمنين من قومه، وما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان؛ لأنّ هذا القدر مذكور في القرآن. وما آمن معه إلا قليل، فأما تعيين ذلك القدر فغير معلوم. ﴿قال﴾ لهم لما سخروا منه ﴿إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون﴾ إذا نجونا وغرقتم. فإن قيل: السخرية لا تليق بمنصب النبوّة؟ أجيب: بأنّ ذلك ذكر على سبيل الازدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى، ٤٠) والمعنى إن تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم، وهو قوله تعالى:
﴿فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه﴾ أي: يهينه في الدنيا وهو الغرق ﴿ويحلّ عليه﴾ في الآخرة ﴿عذاب مقيم﴾ وهو النار التي لا انقطاع لها وقوله تعالى:
﴿حتى إذا جاء أمرنا﴾ أي: بإهلاكهم غاية لقوله ويصنع الفلك، وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام. واختلف في التنور في قوله تعالى: ﴿وفار التنور﴾ فقال عكرمة والزهريّ: هو وجه الأرض. وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء فار على وجه الأرض فاركب السفينة. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: فار التنور وقت طلوع الفجر ونور الصبح. وقال الحسن ومجاهد والشعبيّ: أنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسرين ورواية عطية وابن عباس: لأنه حمل الكلام على حقيقته، ولفظ التنور حقيقته هو الموضع الذي يخبز فيه وهو قول أكثر المفسرين فوجب حمل اللفظ عليه، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال: إنه تنور لنوح. ومنهم من قال: إنه كان لآدم عليه السلام. قال الحسن: كان تنوراً من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح فقيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب السفينة أنت وأصحابك. واختلفوا أيضاً في موضعه فقال مجاهد والشعبيّ: كان في ناحية الكوفة، وكان الشعبيّ يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علماً لنوح. وقال مقاتل: كان تنور آدم عليه السلام وكان بالشأم بموضع يقال له عين وردة. وروي عن ابن عباس أنه كان بالهند، ومعنى فار نبع على قوّة وشدّة تشبيهاً بغليان القدر عند قوّة النار، ولا شبهة أنّ التنور لا يفور.
والمراد: فار الماء من التنور فلما فار أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء الأول قوله تعالى: ﴿قلنا احمل فيها﴾ أي: السفينة ﴿من كل زوجين اثنين﴾ والزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى، والتقدير من كل شيئين هما كذلك، فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر وواحد أنثى. وفي القصة أنّ نوحاً عليه السلام قال: يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين، فحشر الله تعالى إليه السباع والطير، فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيحملهما في السفينة. وقرأ حفص بتنوين لام كل، أي: واحمل من كل شيء زوجين اثنين: الذكر زوج والأنثى زوج. فإن قيل: ما الفائدة في قوله زوجين اثنين والزوجان لا يكونان إلا اثنين؟ أجيب: بأنّ هذا على مثال قوله تعالى: ﴿لا تتخذوا إلهين اثنين﴾ (النحل، ٥١). وقوله تعالى: ﴿نفخة واحدة﴾ (الحاقة، ١٣) والباقون بغير تنوين فهذا السؤال غير وارد، النوع
﴿أفتوني﴾ أي: تكرّموا عليّ بالإنابة عما أفعله ﴿في أمري﴾ هذا الذي أجيب به هذا الكتاب جعلت الشورى فتوى توسعاً، لأنّ الفتوى الجواب في الحادثة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة واواً، والباقون بتحقيقها وفي الابتداء الجميع بالتحقيق.
ثم عللت أمرها لهم بقولها ﴿ما كنت قاطعة أمراً﴾ أي: فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه ﴿حتى تشهدون﴾ أفادت بذلك أن شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها، ثم إنهم أجابوها عن ذلك بأن.
﴿قالوا﴾ مائلين إلى الحرب ﴿نحن أولو قوّة﴾ أي: بالمال والرجال ﴿وأولو﴾ أي: أصحاب ﴿بأس﴾ عزم في الحرب ﴿شديد والأمر﴾ أي: في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول ﴿إليك فانظري﴾ أي: بسبب أنه لا نزاع معك ﴿ماذا تأمرين﴾ فإنا نطيعك ونتبع أمرك، ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده.
﴿قالت﴾ جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها ﴿إن الملوك﴾ أي: مطلقاً فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر ﴿إذا دخلوا﴾ عنوة بالقهر ﴿قرية أفسدوها﴾ أي: بالنهب والتخريب ﴿وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ أي: أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر، ثم أكدت هذا المعنى بقولها ﴿وكذلك﴾ أي: ومثل هذا الفعل العظيم الشأن ﴿يفعلون﴾ أي: هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما.
تنبيه: هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقاً لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب، وهي معترضة بين قولها. ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها.
﴿وإني مرسلة إليهم﴾ أي: إلى سليمان وقومه ﴿بهدية﴾ وهي العطية على طريق الملاطفة، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية أصانعه بها عن ملكي فاختبره بها أملك هو أم نبي؟ فإن يكن ملكاً قبل الهدية وانصرف، وإن يكن نبياً لم يقبل الهدية ولم يرضها منا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قولها ﴿فناظرة بم﴾ أي: أيّ شيء ﴿يرجع المرسلون﴾ فأهدت إليه وصفاً ووصائف، قال ابن عباس: ألبستهم لباساً واحداً كي لا يعرف ذكراً من أنثى، وقال مجاهد ألبست الجواري لباس الغلمان وألبست الغلمان لباس الجواري، واختلف في عددهم: فقال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال مجاهد ومقاتل: مائة غلام ومائتا جارية، وقال قتادة: أرسلت إليه بلبنات من ذهب في حرير وديباج، وقال ثابت البناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب، وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب وفي آذانهم أقراطاً وشنوفاً مرصعات بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة
محمد. ورسول الله بدل أو بيان أو نعت وأن يكون محمد مبتدأ وخبره رسول الله وقيل غير ذلك.
ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى ﴿والذين معه﴾ أي: بمعية الصحبة من الصحابة وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان ﴿أشدّاء﴾ أي: غلاظ ﴿على الكفار﴾ منهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته لأنّ الله تعالى أمرهم بالغلظة عليهم لا يرحمونهم ﴿رحماء بينهم﴾ أي: متعاطفون متوادّون كالوالد مع الولد.
كما قال تعالى ﴿أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين﴾ (المائدة: ٥٤)
وعن الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه، ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التذلل وهذا التعطف فيشددوا على من ليس من دينهم ويتحاموه ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام متعطفين بالبر والصلة والمعونة وكف الأذى والاحتمال منهم.
تنبيه: والذين معه مبتدأ خبره أشدّاء على الكفار ورحماء بينهم خبر ثان وقيل غير ذلك. ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله سبحانه وتعالى ﴿تراهم﴾ أي: أيها الناظر لهم ﴿ركعاً سجداً﴾ أي: دائمين الخشوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملكية على صفاتهم الحيوانية فكانت الصلاة آمرة بالخير مصينة عن كل نقص وضير.
ثم أشار إلى إخلاصهم بقوله تعالى ﴿يبتغون﴾ أي: يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم ﴿فضلاً﴾ أي: زيادة من الخير ﴿من الله﴾ أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال من الجلال والجمال الذي أعطاهم ملكة العظمة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرأفة على أوليائه ﴿ورضواناً﴾ أي: رضاً منه عظيماً بما نالهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره ولا محسن سواه.
ثم بين كثرة صلاتهم. بقوله تعالى: ﴿سيماهم﴾ أي: علامتهم التي لا تفارقهم ﴿في وجوههم﴾ ثم بين تعالى العلامة بقوله ﴿من أثر السجود﴾ وهو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى ﴿يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه﴾ (آل عمران: ١٠٦)
رواه عطية العوفيّ عن ابن عباس. وعن أنس هو استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال مجاهد هو السمت الحسن والخشوع والتواضع والمعنى أنّ السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك: هو صفرة الوجه. وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال عكرمة: هو أثر التراب على الجباه. قال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الثياب. وقال عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لأنّ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
قال بعضهم: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. قال البقاعي: ولا يظن أنّ من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإنّ ذلك من سيما الخوارج. وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثقات ومنه حديث أبي الدرداء أنه رأى رجلاً بين عينيه مثل ثغنة البعير فقال: لو لم يكن هذا كان خيراً يعني كان على جبهته أثر السجود


الصفحة التالية
Icon