كقوله تعالى: ﴿كادوا يكونون عليه لبداً﴾ (الجن، ١٩)
أي: لفرط ازدحامهم، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه الكافر على عداوة محمد ﷺ من المال الطيب الذي أنفقه المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرة النبيّ ﷺ فيركمه جميعاً ﴿فيجعله في جهنم﴾ في جملة ما يعذبون به كقوله تعالى: ﴿فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم﴾ (التوبة، ٣٥)
الآية، واللام على هذا متعلقة بتكون من قوله تعالى: ﴿ثم تكون عليهم حسرة﴾ وعلى الأوّل متعلقة بيحشرون أو يغلبون.
وقرأ ﴿ليميز﴾ حمزة والكسائيّ بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثانية مع الكسر والباقون بفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الثانية، وقوله تعالى: ﴿أولئك﴾ إشارة إلى الذين كفروا ﴿هم الخاسرون﴾ أي: الكاملون في الخسران؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم.
ولما بيّن تعالى ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى طريق الصواب.
فقال: ﴿قل﴾ يا محمد ﴿للذين كفروا﴾ كأبي سفيان وأصحابه ﴿إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف﴾ أي: قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عن الكفر وقتال النبيّ ﷺ يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم ﴿وإن يعودوا﴾ أي: إلى الكفر ومعاداة النبيّ ﷺ ﴿فقد مضت سنة الأوّلين﴾ أي: بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، واختلفوا هل الكافر الأصلي مخاطب بفروع الشريعة؟ وهل يسقط عن المرتدّ ما مضى في حال ردّته كالكافر الأصلي كما هو ظاهر الآية؟ وهل الردّة تحبط ما مضى من العبادات قبلها، ذهب أصحاب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه إلى أنه مخاطب بدليل قوله تعالى: ﴿ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين﴾ (المدثر، الآيات: ٤٢ ـ ٤٣)
الآية، وأنّ المرتدّ لا تسقط عنه العبادات الفائتة في الردّة تغليظاً عليه، وأنّ الردّة لا تحبط ما مضى، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المائدة، وعن يحيى بن معاذ أنه قال: توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
ولما بيّن تعالى أنّ هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران، وإن عادوا فهم متوعدون سنة الأوّلين أتبعه بالأمر بقتالهم إذا أصرّوا، فقال تعالى:
﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة﴾ أي: شرك كما قاله ابن عباس، وقال الربيع: حتى لا يفتن أحدكم عن دينه؛ لأنّ المؤمنين كانوا يفتنون عن دين الله في مبدأ الدعوة، فافتتن من المسلمين بعضهم، وأمرهم رسول الله ﷺ أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله ﷺ بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة ﴿ويكون الدين كله﴾ خالصاً ﴿﴾ تعالى وحده لا يعبد غيره ﴿فإن انتهوا﴾ عن الكفر ﴿فإن الله بما يعملون بصير﴾ أي: فيجازيهم به.
﴿وإن تولوا﴾ عن الإيمان ﴿فاعلموا أنّ الله مولاكم﴾ أي: ناصركم ومتولي أموركم ﴿نعم المولى﴾ هو فإنه لا يضيع من تولاه ﴿ونعم النصير﴾ أي: الناصر، فلا يغلب من ينصره فمن كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخالفات.
﴿واعلموا أنما غنمتم﴾ أي: أخذتم من الكفار الحربيين
وغيره.
تنبيه: قال الزمخشري قد نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. فإن قيل: ما المؤمن؟ أجيب: بأنه في اللغة هو المصدق وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين: أحدهما: أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه، فهو مؤمن والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقي دون الفاسق، ثم إنه تعالى حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعاً لصفات سبعة:
الصفة الأولى: كونهم مؤمنين.
الصفة الثانية: المذكورة في قوله تعالى:
﴿الذين هم﴾ أي: بضمائرهم وظواهرهم ﴿في صلاتهم خاشعون﴾ قال ابن عباس: مخبتون أذلاء، وقيل: خائفون، وقيل: متواضعون، وعن قتادة: الخشوع إلزام موضع السجود، روى الحاكم ـ وقال: صحيح على شرط الشيخين: «أنه ﷺ كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده» أي: موضع سجوده وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أنّ يشدّ بصره إلى شيء أو يحدّث بشيء من شأنّ الدنيا، وقيل: هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أنّ يستعمل الأدب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والتشبيك والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والاختصار، وتقليب الحصى؛ روى الترمذي لكن بسند ضعيف: «أنه ﷺ أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه»، ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوّجني الحور العين فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث، وعنه أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله وهو في الصلاة فلا صلاة له، وروي أنه ﷺ قال: «إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها»، وقال ﷺ «كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب» وقال: «من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً».
فينبغي للشخص أنّ يحتاط في صلاته ليوقعها على التمام، فإنّ بعض العلماء اختار عدم الإمامة، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أنّ يعاتبني الشافعيّ وإن قرأتها أنّ يعاتبني أبو حنيفة فاخترت عدم الإمامة طلباً للخلاص من هذا الخلاف. فإن قيل: لم أضيفت الصلاة إليهم؟ أجيب: بأنّ الصلاة وصلة بين الله وبين عباده والمصلي هو المنتفع بها وحده، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته، وأما الله تعالى فهو غنيّ متعالٍ عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
الصفة الثالثة المذكورة في قوله تعالى:
﴿والذين هم﴾ أي: بضمائرهم التي تتبعها ظواهرهم ﴿عن اللغو﴾ قال ابن عباس: عن الشرك ﴿معرضون﴾ أي: تاركون، وقال الحسن: عن المعاصي، وقال الزجاج: هو كل باطل ولهو وما لا يحمد من القول والفعل، وقيل: هو كل ما لا يعني الشخص من قول أو فعل وهو ما يستحق أنّ يسقط ويلغى، فمدحهم الله تعالى بأنهم معرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأنّ لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال تعالى: ﴿وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً﴾ أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
الصفة الرابعة المذكورة في قوله تعالى:
الخوارق ﴿وجعلناه﴾ أي: بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته ﴿مثلاً﴾ أي: أمراً عجيباً كالمثل لغرابته من أنثى فقط بلا واسطة ذكر كما خلقنا آدم من غير ذكر وأنثى وشرفناه بالنبوة ﴿لبني إسرائيل﴾ الذين هم أعرف الناس به، بعضهم بالمشاهدة، وبعضهم بالنقل القريب المتواتر فيعرفون به قدرة الله تعالى على ما يشاء حيث خلقه من غير أبٍ.
﴿ولو نشاء﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿لجعلنا﴾ ما هو أغرب مما صنعناه من أمر عيسى عليه السلام ﴿منكم﴾ أي: جعلا مبتدأ منكم إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه السلام من أنثى من غير ذكر، وجعلنا آدم عليه السلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر، وإما بالبدلية ﴿ملائكة في الأرض يخلفون﴾ أي: يخلفونكم في الأرض والمعنى: أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقها إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى.
﴿وإنه﴾ أي: عيسى عليه السلام ﴿لعلم للساعة﴾ أي: نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي تعم الخلائق كلها بالموت فنزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها قال ﷺ «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمنه الملل كلها إلا الإسلام».
وروي: «أنه ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها: أنيق وبيده حربة وعليه مخصرتان وشعر رأسه دهين يقتل الدجال ويأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر، وروي في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد ﷺ ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به». وقال النبي ﷺ «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم». وقال الحسن وجماعة. وإنه أي: القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها ويخبركم أحوالها وأهوالها ﴿فلا تمترن بها﴾ حذف منه نون الرفع للجزم وواو الضمير لالتقاء الساكنين من المرية وهي الشك أي: لا تشكن فيها وقال ابن عباس: لا تكذبوا بها ﴿واتبعوني﴾ أي: أوجدوا تبعكم لي ﴿هذا﴾ أي: كل ما أمرتكم به من هذا أو غيره ﴿صراط﴾ أي: طريق واضح ﴿مستقيم﴾ أي: لا عوج له، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بغير ياء وصلاً وقفاً.
﴿ولا يصدنكم الشيطان﴾ أي: عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي ﴿إنه لكم﴾ أي: عامة وأكد الخبر لأن أفعال التابعين له أفعال من ينكر عداوته ﴿عدو مبين﴾ أي: واضح العداوة في نفسه مناد بها وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم آدم عليه السلام حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب عداوة ناشئة عن الحسد فهي لا تنفك أبداً.
﴿ولما جاء عيسى﴾ أي: إلى بني إسرائيل ﴿بالبينات﴾ أي: المعجزات أي: بآيات الإنجيل وبالشرائع الواضحات ﴿قال﴾ منبهاً لهم ﴿قد جئتكم﴾ بما يدلكم قطعاً على أني آية من عند الله وكلمة منه ﴿بالحكمة﴾ أي: الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه، ولا يدفع بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال ﴿ولأبين لكم﴾ أي: بياناً واضحاً
إحدى الأمم.
فإن قيل: لِمَ قال تعالى: ﴿كفروا﴾ بلفظ الماضي، وذكر المشركين باسم الفاعل؟ ﴿ {
أجيب: بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد ﷺ بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وذلك يدل على الثبات على الكفر.
وقوله تعالى: {حتى﴾
أي: إلى أن ﴿تأتيهم البينة﴾ متعلق بيكن أو بمنفكين، والبينة الآية التي هي البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا طوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول ﷺ وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب، وهو القرآن.
وقوله تعالى: ﴿رسول﴾ أي: عظيم جدّاً بدل من البينة بنفسه، أو بتقدير مضاف، أي: سنة رسول، أو مبتدأ وزاد عظمته بقوله تعالى واصفاً له: ﴿من الله﴾ أي: الذي له الجلال والإكرام وهو محمد ﷺ لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سراجاً منيراً، ولأنّ اللام في البينة للتعريف، أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهم السلام. وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير وقد جمعها الله تعالى ههنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم
ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه: ﴿ذو العرش المجيد فعال لما يريد﴾ (البروج، الآيتان: ١٥ ـ ١٦)
فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الانجيل أو القرآن، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي: لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي: حتى أتتهم البينة، وتبعه على ذلك الجلال المحلى. وقوله تعالى: ﴿يتلو صحفاً﴾ صفة الرسول، أو خبره والرسول ﷺ وإن كان أمّياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل: المراد جبريل عليه السلام وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي: القرطاس، والمراد فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة ﴿مطهرة﴾ أي: في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وأنها لا يمسها إلا المطهرون.
﴿فيها﴾ أي: تلك الصحف ﴿كتب﴾ أي: أحكام مكتوبة ﴿قيمة﴾ أي: مستقيمة ناطقة بالحق والعدل الذي لا مرية فيه ليس فيه شرك، ولا اعوجاج بنوع من الأنواع.
﴿وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب﴾ أي: عما كانوا عليه، وخص أهل الكتاب بالتفرق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لأنهم يظنون بهم علماً فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. ﴿إلا من بعد جاءتهم البينة﴾ أي: أتتهم البينة الواضحة، والمعنيّ به محمد ﷺ أتى بالقرآن موافقاً للذي في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجمعين على نبوته فلما بعث ﷺ جحدوا نبوّته وتفرّقوا، فمنهم من كفر بغياً وحسداً ومنهم من آمن كقوله تعالى: ﴿وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم﴾ (الشورى: ١٤)
. وقال تعالى: ﴿وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به﴾ (البقرة: ٨٩)
وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق لا تفرّقهم


الصفحة التالية
Icon