محمد ﷺ من الآيات والملائكة والنصر ﴿يوم الفرقان﴾ أي: يوم بدر، فإنه فرق به بين الحق والباطل ﴿يوم التقى الجمعان﴾ أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين، وهو يوم بدر وهو أوّل مشهد شهده رسول الله ﷺ وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسعة عشر أو لسبعة عشر من رمضان وأصحاب رسول الله ﷺ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله تعالى المشركين، وقتل منهم سبعون، وأسر منهم مثل
ذلك ﴿وا
على كلّ شيء قدير﴾
فيقدر على نصر القليل على الكثير، والدليل على العزيز كما فعل ذلك بكم ذلك اليوم وقوله تعالى:
﴿إذ أنتم بالعدوة الدنيا﴾ أي: القربى من المدينة، بدل من يوم الفرقان أو من يوم التقى الجمعان، أو منصوب باذكروا مقدّراً، والعدوة الدنيا مما يلي المدينة ﴿وهم بالعدوة القصوى﴾ أي: البعدى من المدينة، وهي مما يلي مكة وكان الماء بها، وكان استظهار المشركين من هذا الوجه أشدّ.
والقصوى تأنيث الأقصى، وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا، ولكن لم تغلب تفرقة بين الاسم والصفة، فإنها تقلب في الاسم دون الصفة على الأكثر وقيل: بالعكس وعلى الأوّل القصوى وإن كان صفة للعدوة في الآية كالدنيا لكن غلب عليها الاسمية لترك الوصف بها في أكثر الاستعمالات كما قاله ابن جني، فالقصوى بالواو على القولين شاذ بالنظر إلى اسميتها في الأوّل وإلى وصفيتها في الثاني، ومثال الصفة الخالصة حلوى تأنيث الأحلى فهي بالواو مقيسة على الأوّل شاذة على الثاني، ومثال الاسم الخالص حزوى اسم مكان فهو بالواو شاذ على الأوّل مقيس على الثاني، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو العدوّة وهي شط الوادي بكسر العين فيهما، والباقون بضمّ العين فيهما، وأمّا الدنيا والقصوى فأمالهما حمزة والكسائي محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين ﴿والركب﴾ أي: العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان ﴿أسفل منكم﴾ أي: أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر، وأسفل نصب على الظرفية معناه مكاناً أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل؛ لأنه خبر المبتدأ ﴿ولو تواعدتم﴾ أنتم والنفير للقتال ﴿لاختلفتم في الميعاد﴾ وذلك أنّ المسلمين خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وخرج الكفار مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله ﷺ لأموالهم فيمنعوها من المسلمين، فالتقوا على غير ميعاد لقلتهم وكثرة عدوّهم ﴿ولكن﴾ جمع الله تعالى بينهم على هذه
الحالة من غير
ميعاد ﴿ليقضي الله أمراً كان مفعولاً﴾ في علمه وهو نصر أوليائه وإعزاز دينه وإعلاء كلمته وقهر أعدائه، وقوله تعالى: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة﴾ بدل من ليقضي أو متعلق بقوله: ﴿مفعولاً﴾ واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي: ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالطة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، فإنّ وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.f
وقرأ نافع والبزيّ وشعبة بياءين: الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، والباقون بياء واحدة مشدّدة، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: ﴿وإنّ الله لسميع عليم﴾ أي: يسمع دعاءكم
عليها ولا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم، ويؤدّونها في أوقاتها.
فإن قيل: كيف كرّر الصلاة أولاً وآخراً؟ أجيب: بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخر بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها، وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أيّ صلاة كانت وجمعت آخراً على غير قراءة حمزة والكسائي، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء، والوتر والضحى وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل، ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى:
﴿أولئك﴾ أي: البالغون من الإحسان أعلى مكان ﴿هم الوارثون﴾ أي: المستحقون لهذا الوصف، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» وقال مجاهد: لكل واحد منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار»، وقال بعض المفسرين: معنى الوراثة هو أنّ يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
﴿الذين يرثون الفردوس﴾ وهو أعلى الجنة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» اللهمّ بجاه محمد ﷺ أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله ﴿هم فيها خالدون﴾ أي: لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى: ﴿فيها﴾، على تأنيث الجنة، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر، روي «أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الإذفر ـ وفي رواية: ولبنة من مسك مذرى ـ وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان»، وروي «أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث»، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة، والجنة مخلوقة الآن؛ قال تعالى: ﴿أعدت للمتقين﴾ (آل عمران، ١٣٣)، ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعاً:
الأول: الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة، وهي تسع مراتب.
الأولى: قوله تعالى:
﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ أي: آدم ﴿من سلالة﴾ هي من سللت الشيء من الشيء أي: استخرجته منه، وهو خلاصته، وقال ابن عباس: السلالة صفرة الماء، وقوله تعالى: ﴿من طين﴾ متعلق بسلالة، وقيل: المراد
كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك يأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما فيقول: لِيثنين أحدكم على صاحبه فيقول: نِعم الأخ ونِعم الخليل ونِعم الصاحب، قال: ويموت أحد الكافرينِ فيقول: يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فبئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. ثم بين تعالى ما يتلقى به المؤمنين الذين قد توادوا فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال بقوله تعالى:
﴿يا عباد﴾ فأضافهم إلى نفسه إضافة تشريفٍ لأن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين، وفيه أنواع كثيرة توجب المدح أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وهذا تشريف عظيم بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف نبيه محمد ﷺ قال تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾ والثاني قوله: ﴿لا خوف﴾ أي: بوجه من الوجوه ﴿عليكم اليوم﴾ أي: في يوم الآخرة مما يحويه من الأهوال والأمور الشداد والزلزال، وثالثها: قوله تعالى: ﴿ولا أنتم تحزنون﴾ أي: لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به، وقرأ شعبة بفتح الياء في الوصل وسكنها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً وقوله تعالى:
﴿الذين آمنوا﴾ أي: أوجدوا هذه الحقيقة يجوز أن يكون نعتاً لعبادي أو بدلاً منه أو عطف بيان له أو مقطوعاً منصوباً بفعلٍ أي: أعني الذين آمنوا أو مرفوعاً وخبره مضمر تقديره يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقول الذين آمنوا ﴿بآياتنا﴾ الظاهرة عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثانياً ﴿وكانوا﴾ أي: دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق ﴿مسملين﴾ أي: منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد فبذلك يعدلون إلى حقيقة التقوى فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم:
﴿ادخلوا الجنة﴾ ولما كان السرور لا يكمل إلا بالرفيق السار قال تعالى: ﴿أنتم وأزواجكم﴾ أي: نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله تعالى وكانوا مسلمين ﴿تحبرون﴾ أي: تسرون وتنعمون والحبرة: المبالغة في الإكرام على أحسن الوجوه وقوله تعالى:
﴿يطاف﴾ قبله محذوف أي: يدخلون يطاف ﴿عليهم﴾ أي: المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكاً ﴿بصحاف من ذهب﴾ فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم، والصحاف جمع صَحْفَة كجفنة وجفان، قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف، قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المِئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف.
ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى: ﴿وأكواب﴾ جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة
الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم، وهذا يحتمل أن يكون على التعميم، وأن يكون بالنسبة لعصر النبيّ ﷺ لقوله تعالى: ﴿وأني فضلتكم على العالمين﴾ (البقرة: ٤٧)
أي: عالمي زمانهم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل من هو شرّ منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح.
ولما ذكر تعالى الأعداء وبدأ بهم لأنّ ذلك أردع لهم أتبعه الأولياء فقال تعالى مؤكداً ما للكفار من الإنكار:
﴿إنّ الذين آمنوا﴾ أي: أقروا بالإيمان ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي: هذا النوع ﴿أولئك﴾ أي: هؤلاء العالو الدرجات ﴿هم﴾ أي: خاصة ﴿خير البرية﴾ أي: على التعميم، أو برية عصرهم يأتي فيه ما مرّ. وقرأ نافع وابن ذكوان بالهمز في الحرفين لأنه من قولهم برأ الله الخلق، والباقون بالياء المشدّدة بعد الراء كالذرية ترك همزه في الاستعمال. ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى: ﴿ {
{جزاؤهم﴾
أي: على طاعاتهم وعظمه بقوله تعالى: ﴿عند ربهم﴾ أي: المربي لهم والمحسن إليهم ﴿جنات عدن﴾ أي: إقامة لا يحولون عنها ﴿تجري﴾ أي: جرياً دائماً لا انقطاع له ﴿من تحتها﴾ أي: تحت أشجارها وغرفها ﴿الأنهار خالدين فيها﴾ أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم في موجباتها وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى: ﴿أبداً رضي الله﴾ أي: بما له من نعوت الجلال والجمال ﴿عنهم﴾ أي: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق ﴿ورضوا عنه﴾ لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء، ولا يقدره أحد حق قدره فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى: ﴿لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ (فاطر: ٤٥)
. وقال ابن عباس: ورضوا عنه بثواب الله عز وجل. ﴿ذلك﴾ أي: الأمر العالي الذي جوزوا به ﴿لمن خشي ربه﴾ أي: خاف المحسن إليه خوفاً يليق به فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير وهي للعارفين، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها: الخوف، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته، فإن اشتدّ سمي: وجلاً لجولانه في نفسه، فإن اشتدّ سمي: رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى. ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ووراء هذا الخشية ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ (فاطر: ٢٨)
فمن خاف ربه هذا الخوف أنفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب. روى أنس «أنّ النبيّ ﷺ قال لأبيّ بن كعب: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك ﴿لم يكن الذين كفروا﴾ قال أبيّ: وسماني لك؟ قال النبيّ ﷺ نعم فبكى أبيّ». قال البقاعي: سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ ﷺ فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية، فضرب ﷺ في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، أي: خوفاً ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله ﷺ يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا،


الصفحة التالية
Icon