ونشرب بها الخمور وتعزف علينا القينات، والعزف اللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب به قاله ابن الأثير وغيره، والقينات الجواري، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه ﴿ويصدّون عن سبيل الله﴾ أي: ويمنعون الناس الدخول في دين الله ﴿وا بما يعملون محيط﴾ لا يخفى عليه شيء؛ لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازيهم بأعمالهم.
﴿وإذ﴾ أي: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذ ﴿زين لهم﴾ أي: المشركين ﴿الشيطان﴾ أي: إبليس ﴿أعمالهم﴾ الخبيثة بأنّ شجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر بن الحرث جاء إبليس وجند من الشياطين معه راية فتمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكنانيّ وكان من أشرافهم ﴿وقال﴾ غارّاً لهم في أنفسهم ﴿لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم﴾ أي: مجير لكم من كنانة ﴿فلما تراءت الفئتان﴾ أي: التقى الفريقان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء علم عدوّ الله إبليس أنهم لا طاقة لهم بهم ﴿نكص على عقبيه﴾ قال الضحاك: ولى مدبراً وقال النضر بن شميل: رجع القهقرى على قفاه هارباً ﴿وقال إني بريء منكم﴾ قال الكلبي: لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك، وهو آخذ بيد الحرث بن هشام، فنكص عدوّ الله إبليس على عقبيه، فقال له الحرث: إلى أين أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال له عدوّ الله إبليس: ﴿إني أرى ما لا ترون﴾ ودفع في صدر الحرث، وانطلق فانهزموا قال الحسن: رأى إبليس جبريل بين يدي النبيّ ﷺ وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب، قال قتادة: قال إبليس: إني أرى ما لا ترون وصدق وقال: ﴿إني أخاف الله﴾ وكذب والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوّة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم، وذلك من عادة عدوّ الله إبليس لعنه الله لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم، وقال عطاء: خاف إبليس أن يهلكه الله تعالى فيمن يهلك، وقيل: أخاف الله عليكم، وقيل: إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل: لما رأى الملائكة تنزل من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقاً على نفسه.
ولما انهزموا وبلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغه ذلك فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وقوله تعالى: ﴿وا شديد العقاب﴾ يجوز أن يكون من كلام إبليس أي: إني أخاف الله؛ لأنه شديد العقاب وأن يكون مستأنفاً أي: والله شديد العقاب لمن خالفه وكفر به.
فإن قيل: كيف يقدر إبليس أن يتصوّر بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً؟ أجيب: بأنّ الله تعالى أعطاه قوّة، وأقدره على فعل ذلك كما أعطى الملائكة قوّة وأقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنية لم تتغير، فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة.
وروي أنه ﷺ قال: «ما رؤي إبليس يوماً فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة» وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان
في الإيعاد من قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إنّ أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين﴾ (الملك، ٣٠)، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى:
﴿فأنشأنا﴾ أي: فأخرجنا وأحيينا ﴿لكم﴾ خاصة لا لنا ﴿به﴾ أي: بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي ﴿جنات﴾ أي: بساتين ﴿من نخيل وأعناب﴾ صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني، فإنه المقصود من شجرته، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى: ﴿لكم﴾ أي: خاصة ﴿فيها﴾ أي: الجنات ﴿فواكه كثيرة﴾ تتفكهون بها ﴿ومنها﴾ أي: ومن الجنات من ثمارها وزروعها ﴿تأكلون﴾ رطباً ويابساً وتمراً وزبيباً، وقوله تعالى:
﴿وشجرة﴾ عطف على جنات أي: وأنشأنا لكم شجرة أي: زيتونة ﴿تخرج من طور سيناء﴾ وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه السلام بين مصر وإيلة، وقيل: بفلسطين، وفي رواية أخرى: طور سينين، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين، وإما أنّ يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرىء القيس، وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون لم يصرفه؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء؛ قال مجاهد: معناه البركة أي: من جبل مبارك، وقال قتادة: معناه الحسن أي: الجبل الحسن، وقال الضحاك: هو بالقبطية ومعناه الحسن، وقال عكرمة: بالحبشية، وقال مقاتل: كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سيناء وسينين بلغة القبط.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿تنبت﴾ بضم التاء الفوقية، وكسر الباء الموحدة من الرباعي، والباقون بفتح الفوقية وضم الموحدة من الثلاثي فقوله تعالى: ﴿بالدهن﴾ تكون الباء على الأول زائدة، وعلى الثاني معدية قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل؛ لأنّ منه تشعبت في البلاد وانتشرت؛ ولأنّ معظمها هناك.
قال بعض المفسرين: وإنما عرف الدهن؛ لأنه أجل الأدهان وأكملها، وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وقوله تعالى: ﴿وصبغ للآكلين﴾ عطف على الدهن أي: إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه، وهو الزيت؛ قيل: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله تعالى: ﴿يوقد من شجرة مباركة﴾ (النور، ٣٥)
النوع الرابع من الدلائل: الاستدلال بأحوال الحيوانات، وهو قوله تعالى:
﴿وإن لكم في الأنعام﴾ وهي الإبل والبقر والغنم ﴿لعبرة﴾ عظيمة تعتبرون بها وتستدلون بها على البعث وغيره ﴿نسقيكم مما في بطونها﴾ أي: اللبن نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به من بين الفرث والدم ﴿ولكم فيها﴾ أي: جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيماً لمنافعها حتى كأنّ غيرها عدم ﴿منافع كثيرة﴾ باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها وبأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من آثارها ﴿ومنها تأكلون﴾ أي: وكما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بسهولة من غير امتناع مّا من شيء من
أي: محكمون أمراً في مجازاتهم أي: مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: ﴿أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون﴾ (الطور: ٤٢)
قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر في دار الندوة.
تنبيه: أم منقطعة والإبرام: الإتقان وأصله في الفتل يقال أبرم الحبل، أي: أتقن فتله وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل قال زهير:
*لعمري لنعم السيدان وجدتما | على كل حال من سحيل ومبرم* |
ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعلم ما في الضمائر وهي مما يعلم حقق أن المراد به حقيقته بقوله تعالى: ﴿ونجواهم﴾ أي: تناجيهم في كلامهم المرتفع فيما بينهم حتى كأنه على نجوة أي: مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع ﴿بلى﴾ نسمع الصنفين كليهما على حد سواء ﴿ورسلنا﴾ وهم الحفظة من الملائكة على الجميع السلام على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا ﴿لديهم﴾ أي: عندهم، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها ﴿يكتبون﴾ أي: يجددون الكتابة كل ما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة يجتنب ما يخاف عاقبته، وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر عن الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعائهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله تعالى: ﴿ستكتب شهادتهم ويسألون﴾ أمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يقول لهم:
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿إن كان للرحمن﴾ أي: العام الرحمة ﴿ولد﴾ أي: على زعمكم والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة وغيرهم ﴿فأنا﴾ أي: في الرتبة، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بغير مد ﴿أول العابدين﴾ للرحمن العبادة التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة أي: فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره، ولم يشأ لي الرحمن أن أعبد الولد ولا غيره، أو يكون المعنى: أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات بما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيرهما، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمته فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاءه لي ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له فبطلت شبهتكم بمثلها بل بأقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى.
وقال الزمخشري: إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك
على الجنة، وأخذ ذات الشمال إلى النار ﴿ليروا﴾ أي: يرى الله تعالى المحسن منهم والمسيء بواسطة من شاء من جنوده، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله ﷺ ﴿أعمالهم﴾ فيعلموا جزاءها، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله تعالى مفصلاً الجملة التي قبله: ﴿فمن يعمل﴾ من محسن أو مسيء، مسلم أو كافر ﴿مثقال ذرّة خيراً﴾ أي: من جهة الخير ﴿يره﴾ أي: يرى ثوابه حاضراً لا يغيب عنه شيء منه، لأنّ المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة.
﴿ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره﴾ فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، أو على أنه جوزي في الدنيا فهو صورة بلا معنى ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس: من يعمل من الكفار خيراً يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة
وفي بعض الأحاديث: إنّ الذرّة لا زنة لها، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيراً ولا كبيراً، وهو كقوله تعالى: ﴿إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة﴾ (النساء: ٤٠)
. وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذرأن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ، من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شررّ ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ ﷺ وأبو بكر يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ؟ فقال ﷺ يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة». وقال أبو إدريس: إنّ مصداقه من كتاب الله عز وجل: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾ (الشورى: ٣٠)
. وقال مقاتل: نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه ولهذا قال ﷺ «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» وتحذرهم من اليسير من الذنب، ولهذا قال ﷺ لعائشة: «إياك ومحقرات الذنوب فإنّ لها من الله تعالى طالباً» وقال ابن مسعود: هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل على محمد ﷺ آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف ﴿فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره﴾. وكان ﷺ يسمي هذه الجامعة الفاذة