صففنا لقريش وصفوا لنا: «إذا كبسوكم فعليكم بالنبل»، وفي رواية: «ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبة أهله، ورميه بقوسه أي: نبله، فإنهنّ من الحق ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها أو كفرها» أخرجه الترمذي.
والثاني: إنها الحصون.
والثالث: إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى: ﴿ومن رباط الخيل﴾ مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكوراً أو إناثاً، وقال عكرمة: المراد الإناث.
وروي عن خالد بن الوليد أنه قال: لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها، وعن أبي محيريز أنه قال: كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات، وقيل: ربط الفحول أولى؛ لأنها أقوى على الكرّ والفرّ، ويدلّ للأوّل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله ﷺ قال: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإنّ شبعه وريه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» يعني حسناته، وعن عروة البارقيّ إنّ رسول الله ﷺ قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم»، وسئل رسول الله ﷺ عن الحمر فقال: «ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ﴿فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره﴾ ﴿ترهبون﴾ أي: تخوفون ﴿به﴾ أي: بتلك القوّة أو بذلك الرباط ﴿عدوّ الله وعدوّكم﴾ أي: الكفار من أهل مكة وغيرهم، وذلك إنّ الكفار إذا علموا أنّ المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم، فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سبباً لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين ﴿و﴾ ترهبون ﴿آخرين من دونهم﴾ أي: غيرهم وهم المنافقون لقوله تعالى: ﴿لا تعلمونهم﴾ ؛ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴿الله يعلمهم﴾ أي: إنهم منافقون.
فإن قيل: المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكر الإرهاب؟ أجيب: بأنّ المنافقين إذا شاهدوا قوّة المسلمين، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويقطع طمعهم من أن يصيروا غالبين، فيحملهم ذلك على أن يتركوا الكفر من قلوبهم، وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان، وقيل: هم اليهود، وقيل: الفرس ﴿وما تنفقوا من شيء﴾ وإن قل ﴿في سبيل الله﴾ أي: طاعته جهاداً كان أو غيره ﴿يُوفّ إليكم﴾ قال ابن عباس: أجره، أي: لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا ﴿وأنتم لا تظلمون﴾ أي: لا تنقصون من الثواب، ولما سئل ابن عباس عن هذا التفسير تلا قوله تعالى: ﴿آتت أكلها ولم تظلم منه شيأ﴾ (الكهف، ٣٣)
ولما بيّن تعالى ما يرهب به العدوّ من القوّة، والاستظهار بيّن جواز الصلح بقوله تعالى:
﴿وإن جنحوا﴾ أي: مالوا ﴿للسلم﴾ أي: الصلح ﴿فاجنح﴾ أي: فمل ﴿لها﴾ وعاهدهم، وتأنيث الضمير في لها لحمل السلم مع أنه مذكر على ضدّه وهو الحرب قال الشاعر:

*السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جُرَعُ*
فأنث ضمير السلم، في تأخذ حملاً على ضدّه وهو الحرب، وعن ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون با﴾ (التوبة، ٢٩)
وعن مجاهد بقوله تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ (التوبة، ٥)
إنكارهم بقولهم:
﴿أيعدكم أنكم إذا متم﴾ ففارقت أرواحكم أجسادكم ﴿وكنتم﴾ أي: وكانت أجسادكم ﴿تراباً﴾ باستيلاء التراب على ما دون عظامكم ﴿وعظاماً﴾ مجردة عن اللحوم والأعصاب ﴿أنكم مخرجون﴾ أي: من تلك الحالة التي صرتم إليها فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام.
تنبيه: قوله تعالى: مخرجون خبر إنكم الأولى، وإنكم الثانية تأكيد لها لما طال الفصل، ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعاد ذلك فقالوا:
﴿هيهات هيهات﴾ اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي: بعد بعد جداً، وقال ابن عباس: هي كلمة بعد أي: بعيد، ثم كأنه قيل: لأي شيء هذا الاستبعاد؟ فقيل: ﴿لما توعدون﴾ من الإخراج من القبور فإن قيل: ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أنّ يرفع بهيهات كما ارتفع به في قوله:
*فهيهات هيهات العقيق وأهله
فما هذه اللام؟ أجيب: بأنّ الزجاج قال في تفسيره: البعد لما توعدون فنزل منزلة المصدر، ويصح أنّ تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به أو أنّ اللام زائدة للبيان.
فائدة: وقف البزي والكسائي على هيهات الأولى والثانية بالهاء، والباقون بالتاء على المرسوم.
وقولهم: ﴿إن هي﴾ ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة ﴿إلا حياتنا الدنيا﴾ ثم وضع هي موضع الحياة؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت، والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس ﴿نموت ونحيى﴾ أي: يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم، وقيل: يموت قوم ويحيا قوم، وقيل: تموت الآباء وتحيا الأبناء، وقيل: في الآية تقديم وتأخير أي: نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا: ﴿وما نحن بمبعوثين﴾ بعد الموت فكأنه قيل: فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل: كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا:
﴿إن﴾ أي: ما ﴿هو إلا رجل افترى﴾ أي: تعمد ﴿على الله﴾ أي: الملك الأعلى ﴿كذباً﴾ فلا يلتفت إليه ﴿وما نحن له بمؤمنين﴾ أي: بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل:
﴿قال رب﴾ أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم ﴿انصرني﴾ أي: أوقع لي النصر ﴿بما كذبون﴾ فأجابه ربه بأن:
﴿قال عما قليل﴾ من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها ﴿ليصبحن﴾ أي: ليصيرنّ ﴿نادمين﴾ أي: على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب.
﴿فأخذتهم الصيحة﴾ أي: صيحة العذاب والهلاك كائنة ﴿بالحق﴾ أي: الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا، وقيل: صيحة جبريل عليه السلام، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق ﴿فجعلناهم﴾ بسبب الصيحة ﴿غثاء﴾ أي: مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله: ﴿فجعله غثاء أحوى﴾ (الأعلى، ٥)
أي: أسود يابساً، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى: ﴿فبعداً﴾ أي: هلاكاً وطرداً عن الرحمة ﴿للقوم الظالمين﴾ الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
تنبيه: يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم، ووضع
المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض، ثانيها: قوله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ (البقرة: ١٨٥)
فقوله تعالى ههنا ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ يجب أن تكون هذه الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر، ثالثها: قوله تعالى في صفة ليلة القدر: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ (القدر: ٤)
وقال تعالى ههنا.
﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ وقال ههنا ﴿رحمة من ربك﴾ وقال تعالى في ليلة القدر ﴿سلام هي﴾ (القدر: ٥)
وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى، رابعها: نقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، والليلة المباركة هي: ليلة القدر، خامسها: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم، ومعلوم أن قدرها وشرفها ليس بسبب نفس الزمان لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها شعباً في الدين هو القرآن لأنه ثبت به نبوة محمد ﷺ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته: ﴿ومهيمناً عليه﴾ (المائدة: ٤٨)
وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة وهذه أدلة ظاهرة واضحة، واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بوجوه؛ أولها: أن لها أربعة أسماء الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة، وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة.
وقيل في تسميتها: ليلة البراءة والصك أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة وكذلك الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، ثانيها: أنها مختصة بخمس خصال الأولى: قال تعالى: ﴿فيها يفرق كل أمر حكيم﴾ والثانية: فضيلة العبادة فيها، روى الزمخشري أنه ﷺ قال: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك: ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان». ثالثها: نزول الرحمة قال ﷺ «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب». رابعها: حصول المغفرة فيها قال ﷺ «إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا الكاهن والساحر ومدمن الخمر وعاق والديه والمصر على الزنا». خامسها: أنه تعالى أعطى رسول الله ﷺ في هذه الليلة تمام الشفاعة في أمته، قال الزمخشري: وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع إلا من شرد عن الله شرود البعير.
وروي أن عطية الحروري سأل ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ (القدر: ١)
كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور فقال ابن عباس: يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع في نفسك هذا ولم
وجهين أحدهما أنه بمضمر دلّ عليه القارعة، أي: تقرعهم يوم. وقيل تقديره: تأتي القارعة يوم ﴿يكون الناس﴾ والثاني أنه أذكر مقدّراً فهو مفعول به لا ظرف. وقوله تعالى: ﴿كالفراش المبثوث﴾ يجوز أن يكون خبراً للناقصة وأن يكون حالاً من فاعل التامة، أي: يؤخذون ويحشرون شبه الفراش شبههم في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار، والفراش طائر معروف. قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة. وقال الفراء: هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما، وبه يضرب المثل في الطيش والهرج يقال: أطيش من فراشة. وأنشدوا:
*فراشة الحلم فرعون العذاب وأن تطلب نداه فكلب دونه كلب*
وفي أمثالهم: أضعف من فراشة، وأذل وأجهل. وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره. وروى مسلم عن جابر قال: «قال رسول الله ﷺ مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهنّ عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي». وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى منها الطيش الذي يلحقهم وانتشارهم في الأرض، وركوب بعضهم بعضاً، والكثرة والضعف، والذلة والمجيء من غير ذهاب، والقصد إلى الداعي من كل جهة، والتطاير إلى النار. قال جرير:
*إنّ الفرزدق ما علمت وقومه مثل الفراش غشين نار المصطلى*
والمبثوث المتفرق، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿كأنهم جراد منتشر﴾ (القمر: ٧)
فإن قيل: كيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث؟ أجيب: بأنّ التشبيه بالفراش في ذهاب كل واحد إلى غير جهة الآخر، وأمّا التشبيه بالجراد فبالكثرة والتتابع.
﴿وتكون الجبال﴾ على ما هي عليه من الشدّة والصلابة وأنها صخوراً راسخة ﴿كالعهن﴾ أي: الصوف المصبوغ ألواناً لأنها ملوّنه قال تعالى: ﴿ومن الجبال جدد بيض وحمر﴾ (فاطر: ٢٧)
أي: وغير ذلك ﴿المنفوش﴾ أي: المندوف المفرّق الأجزاء فتراها لذلك متطايرة في الجوّ كالهباء المنثور، كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿هباءً منبثاً﴾ (الواقعة: ٦)
حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمّتا.
ثم سبب عن ذلك تعالى مفصلاً لهم:
﴿فأمّا من ثقلت موازينه﴾ أي: برجحان الحسنات، وفي الموازين قولان: أحدهما: أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، وهذا قول الفراء. والثاني: قال ابن عباس: إنه جمع ميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال، فتوزن فيه الصحف المكتوبة فيها الحسنات والسيئات أو الأعمال أنفسها، فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فإذا رجحت فالجنة له، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف ميزانه فيدخل النار.
وقيل: إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار فيقتص منه على قدرها، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، أو يعفو الله عنه فيدخل الجنة بفضله ورحمته. وأمّا الكافر فقد قال الله تعالى في حقه: ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً﴾ (الكهف: ١٠٥)
ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل


الصفحة التالية
Icon