جبير أسلم مع النبيّ ﷺ ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فتمم الله تعالى به الأربعين فنزلت هذه الآية. ﴿يأيها النبيّ حرّض المؤمنين﴾ أي: حثهم ﴿على القتال﴾ للكفار والتحريض في اللغة، كالتحضيض، وهو الحث على الشيء ﴿إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين﴾ منهم ﴿وإن يكن منكم مائة﴾ صابرة ﴿يغلبوا ألفاً من الذين كفروا﴾ وهذا خبر بمعنى الأمر أي: ليقاتل العشرون منكم المائتين والمائة الألف قتال عشرة أمثالكم.
تنبيه: تقييد ذلك بالصبر يدلّ على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها: أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً، ومنها: أن يكون قويّ القلب شديد البأس شجاعاً غير جبان، ومنها: أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة، فإنّ الله تعالى استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدّمة فعند حصول هذه الشروط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
فإن قيل: حاصل هذه العبارة المطولة إنّ الواحد يثبت للعشرة فما الفائدة في العدول إلى هذه العبارة المطولة؟ أجيب: بأنّ هذا إنما ورد على وفق الواقعة فكان رسول الله ﷺ يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذين العددين.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالتاء على التأنيث والباقون بالياء على التذكير ﴿بأنهم﴾ أي: بسبب أنهم ﴿قوم لا يفقهون﴾ أي: جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، فلا يقاتلوا لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية، فإذا صدقتموهم في القتال لا يثبتون معكم، وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين، قال عطاء عن ابن عباس: لما نزل التكليف بهذه الآية صاح المهاجرون وقالوا: يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع، ونحن في غربة وعدوّنا في أهليهم ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، وعدوّنا ليس كذلك فنسخها الله تعالى بقوله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم﴾ أيها المؤمنون ﴿وعلم أن فيكم ضعفاً﴾ أي: في قتال الواحد للعشرة ﴿فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين﴾ منهم ﴿وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين﴾ منهم ﴿بإذن الله﴾ أي: بإرادته تعالى، فردّوا من العشرة إلى اثنين، فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز أن يفروا، وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين، فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر ﴿وا مع الصابرين﴾ بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون، قال سفيان بن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر. ﴿ما كان﴾ أي: ما صح وما استقام ﴿لنبيّ أن تكون له أسرى﴾ قرأ أبو عمرو بالتاء على التأنيث، والباقون بالياء على التذكير ﴿حتى يثخن في الأرض﴾ أي: يكثر قتل الكفار، ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله؛ لأنّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتدّ بالقتل، قال الشاعر:
*لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم*
دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السلام، وإنّ يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج، وإنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي، قال الرازي: واعلم أنّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات. ﴿إلى فرعون وملئه﴾ أي: وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدماً، ومن الواضح أنّ التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأشار بقوله تعالى: ﴿فاستكبروا﴾ إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت، وطلبوا أنّ لا يكونوا تحت أمر من دعاهم، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى: ﴿وكانوا قوماً﴾ أي: أقوياء ﴿عالين﴾ أي: متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم، ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى: ﴿فقالوا أنؤمن﴾ أي: بالله تعالى مصدقين ﴿لبشرين مثلنا﴾ أي: في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم: ﴿وقومهما﴾ أي: والحال أنّ قومهما أي: بني إسرائيل ﴿لنا عابدون﴾ خضوعاً وتذللاً أي: في غاية الذل والانقياد كالعبيد، فنحن أعلى منهما بهذا، أو لأنه كان يدعي الإلهية، فادعى للناس العبادة وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة. ﴿فكذبوهما﴾ أي: فرعون وملؤه موسى وهارون، ﴿فكانوا﴾ أي: فرعون وملؤه بسبب تكذيبهم ﴿من المهلكين﴾ أي: بالغرق ببحر القلزم ولم تغنِ عنهم قوّتهم في أنفسهم، ولا قوتهم على خصوص بني إسرائيل واستعبادهم ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم، ولما كان ضلال بني إسرائيل بعد إنقاذهم من عبودية فرعون وقومه أعجب قال تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ولقد آتينا﴾ أي: بعظمتنا ﴿موسى الكتاب﴾ أي: التوراة ﴿لعلهم﴾ أي: قوم موسى وهارون عليهما السلام ﴿يهتدون﴾ من الضلالة إلى المعارف والأحكام، ولا يصح عود الضمير إلى فرعون وملئه؛ لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه بدليل قوله تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى﴾ (القصص، ٤٣)
القصة الخامسة: قصة عيسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: ﴿وجعلنا﴾ أي: بعظمتنا وقدرتنا ﴿ابن مريم﴾ نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية، وزاد في تحقيق ذلك بقوله: ﴿وأمه﴾ وقال تعالى: ﴿آية﴾ ولم يقل: آيتين؛ لأنّ الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل، ويحتمل أنّ الآية الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية لأنّ الله تعالى: جعل مريم آية لأنها حملته من غير ذكر، وقال الحسن: قد تكلمت في صغرها كما تكلم عيسى وهو قولها: ﴿هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب﴾، ولم تلتقم ثدياً قط.
تنبيه: قال بعض المفسرين: ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية للقدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومن ذكر بلا أنثى وهي حوّاء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام، ومن الزوجين وهو بقية الناس ﴿وآويناهما﴾ أي:
ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله: ﴿منا﴾ إلى قوله تعالى ﴿من ربك﴾ أي: المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك فإن رسالاتهم كانت لب الأنوار في العبادات وتمهيد الشرائع في البلاد حتى استنارت القلوب واطمأنت النفوس بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق وقال ابن عباس: معنى رحمة من ربك أي: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل، وقال الزجاج: أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة ﴿إنه هو﴾ أي: وحده ﴿السميع العليم﴾ أي: أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم أو لم يذكروها فإن ذكروها فإنه سميع وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها. ﴿رب﴾ أي: مالك ومنشئ ومدبر ﴿السموات﴾ أي: جميع الأجرام العالية ﴿والأرض وما بينهما﴾ مما تشاهدون من هذا الفضاء وما فيه من الهواء وغيره مما تعلمون من أكساب العباد وغيرها مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بخفض الباء الموحدة على البدل أو البيان أو النعت، والباقون برفعها على إضمار مبتدأ أو على أنه مبتدأ خبره لا إله إلا هو، والمقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة، فإن قيل: ما معنى الشرط الذي هو قوله تعالى ﴿إن كنتم موقنين﴾ ؟ أجيب: بأنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم: إن كنتم يا أهل مكة موقنين بأنه تعالى رب السموات والأرض فأيقنوا بأن محمداً عبده ورسوله.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته أنتج ذلك قوله تعالى: ﴿لا إله إلا هو﴾ أي: وإلا لنازعه في أمرهما منازع، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة وإلا لدفع عنه من يمكن نزاعه وخلافه إياه فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإنجاء لكل من يوافقهم على ممر الزمان وتطاول الدهر ومر الحدثان على نظام مستمر وحال ثابت مستقر.
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره ثبت قوله تعالى: ﴿يحيي ويميت﴾ لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير وهو تنبيه على تمام دلائل التوحيد لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه ويحال شيء من الأمر عليه فهما جملتان الأولى: نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية، مثبتة لما نفوه من البعث ﴿ربكم﴾ أي: الذي أفاض عليكم ما تشاهدونه من النعم في الأرواح وغيرها ﴿ورب آبائكم الأولين﴾ أي: الذي أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون فلم يقدر أحد منهم على ممانعة، ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة. ﴿بل هم﴾ أي: بضمائرهم ﴿في شك﴾ أي: من البعث ﴿يلعبون﴾ أي: يفعلون دائماً فعل التارك لما هو فيه من أخذ الجد الذي لا مرية فيه إلى اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه استهزاء بك يا أشرف الرسل فقال ﷺ «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» قال تعالى: ﴿فارتقب﴾ أي: انتظر بكل جهد عالياً عليهم ناظراً لأحوالهم نظر من هو حارس
المال والعدد عن طاعة ربكم، وما ينجيكم من سخطه. ﴿حتى زرتم المقابر﴾ أي: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا، والاستباق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم، والعمل لآخرتكم، وزيارة القبر عبارة عن الموت. قال الأخطل:
*لن يخلص العام خليل عشراً
ذاق الضماد أو يزور القبرا*
تنبيه: حتى غاية لقوله تعالى: ﴿ألهاكم﴾ وهو عطف عليه، والمعنى: حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زواراً ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار، يقال لمن مات: قد زار قبره.
فإن قيل: شأن الزائر أن ينصرف قريباً والأموات ملازمون للقبور فكيف يقال: إنه زار القبر، وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل.
أجيب: عن الأول: بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها، فإن كل آت قريب، وعن الثاني: لتحققه عبر عنه بالماضي كقوله تعالى: ﴿أتى أمر الله﴾ (النحل: ١٠) ﴿ {
وقال أبو مسلم: إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً فكثرهم بنو عبد مناف، وقالت بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات، لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ثم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقال قتادة: في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان عند تفاخرهم، والمعنى: ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر، والمقابر: جمع مقبرة بفتح الباء وضمها، ويسمى سعيد المقبري لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، واعترضه ابن عادل: بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى: {ثم أماته فأقبره﴾ (عبس: ٢١)
وهذا ممنوع فإنه قال المقابر، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال ﷺ «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة». وروى أبو هريرة أنّ رسول الله ﷺ «لعن زوّارات القبور». فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ نعم زيارة النبيّ ﷺ سنة لهنّ ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب الجلوس عليها.
ويسلم إذا دخل المقابر فيقول: «السلام عليكم
الصفحة التالية