هذا، وما دل عليه قوله تعالى:
﴿لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة﴾ فهو تفسير لا تكرير، وقيل: الأوّل عام في المنافقين، وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. ﴿وأولئك﴾ أي: هؤلاء البعداء من كل خير ﴿هم المعتدون﴾ الذين تعدوا ما حد الله لهم في دينه وما يوجبه العقد والعهد.
ولما بيّن تعالى حال من لا يرقب في الله إلاً ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدّى ما حدّ الله تعالى له بين ما يصيرون به من أهل دينه بقوله تعالى:
﴿فإن تابوا﴾ أي: رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به ﴿وأقاموا الصلاة﴾ أي: المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها ﴿وآتوا الزكاة﴾ المفروضة عليهم طيبة بها نفوسهم ﴿فإخوانكم﴾ أي: فهم إخوانكم ﴿في الدين﴾ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقوله تعالى: ﴿ونفصل الآيات لقوم يعلمون﴾ اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين.
﴿وإن نكثوا﴾ أي: نقضوا ﴿أيمانهم﴾ أي: عهودهم. ﴿من بعد عهدهم﴾ الذي عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحداً من أعدائكم ﴿وطعنوا في دينكم﴾ أي: وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه. ﴿فقاتلوا أئمة الكفر﴾ أي: الكفار بأسرهم، وإنما خص الأئمة منهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع منهم على هذه الأعمال الباطلة، وقال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وأبي جهل وسائر رؤساء قريش، وهم الذين نقضوا عهودهم وهموا بإخراج الرسول، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة وحققها الباقون، وقول البيضاوي: والتصريح بالياء لحن تبع فيه الكشاف التابع للفراء، وهو مردود، فالجمهور من النحاة والقراء على جواز قلب الهمزة الثانية حرف لين، فبعضهم على جعلها بين بين، وبعضهم على قلبها ياء خالصة، وقوله تعالى: ﴿إنهم لا أيمان لهم﴾ قرأ ابن عامر بكسر الهمزة أي: لا تصديق لهم ولا دين وليس في ذلك دلالة على أنّ توبة المرتدّ لا تقبل، والباقون بالفتح جمع يمين أي: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان، وإلا لما طعنوا في دينكم ولم ينكثوا، وفيه دليل على أنّ الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده أي: إن شرط ذلك عليه كما هو مذهبنا وتمسك أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذا على أنّ يمين الكافر لا تكون يميناً وعند الشافعيّرخمه الله تعالى يمينهم منعقدة، ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يؤمنوا بها صارت أيمانهم
كأنها ليست بأيمان والدليل على أنّ يمينهم منعقدة أنّ الله تعالى وصفها بالنكث في قوله تعالى: ﴿وإن نكثوا أيمانهم﴾ ولو لم تكن منعقدة لما صح وصفها بالنكث وقوله تعالى: ﴿لعلهم ينتهون﴾ متعلق بقاتلوا أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن ينتهوا عما هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وهذا في غاية كرم الله تعالى وفضله على الإنسان وليس الغرض إيصال الأذية لهم كما هو طريقة الموحدين.
ولما قال تعالى: ﴿فقاتلوا أئمة الكفر﴾ أتبعه بذكر ثلاثة أسباب تبعثكم على مقاتلتهم، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد، فكيف بها حال الاجتماع: أحدها ما ذكره تعالى بقوله:
﴿ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم﴾ أي: نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا
حق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذه منهم، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم أي: لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيل أنت، ولم يرد أن الإنسان ينقطع نسبه، فإن قيل: قد قال تعالى هنا: ولا يتساءلون، وقال تعالى في موضع آخر: ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون﴾ (الصافات، ٢٧)
أجيب: بأن ابن عباس قال: إن للقيامة أحوالاً ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون، وقيل: التساؤل بعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
﴿فمن ثقلت موازينه﴾ أي: بالأعمال المقبولة، قال البقاعي: ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره، وذلك أدل دليل على القدرة ﴿فأولئك﴾ أي: خاصة قال أيضاً: ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد للدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد ﴿هم المفلحون﴾ أي: الفائزون بالنجاة والدرجات العلى.
﴿ومن خفت موازينه﴾ لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان ﴿فأولئك﴾ خاصة ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال وقوله تعالى: ﴿في جهنم خالدون﴾ بدل من الصلة، أو خبر ثان لأولئك، وهي دار لا ينفك أسيرها ولا ينطفىء سعيرها، ثم استأنف قوله تعالى:
﴿تلفح﴾ أي: تغشى بشدّة حرّها وسمومها ووهجها ﴿وجوههم النار﴾ فتحرقها، فما ظنك بغيرها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً ﴿وهم فيها كالحون﴾ أي: عابسون قد شمرت شفاههم العليا والسفلى عن أسنانهم، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وقوله تعالى:
﴿ألم تكن آياتي﴾ أي: من القرآن على إضمار القول أي: يقال لهم: ألم تكن آياتي ﴿تتلى عليكم﴾ أي: تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً ﴿فكنتم بها تكذبون﴾ ثم استأنف جوابه بقوله تعالى:
﴿قالوا ربنا﴾ أي: المسبغ علينا نعمه ﴿غلبت علينا شقوتنا﴾ أي: ملكتنا بحيث صارت أحوالها مؤدّية إلى سوء العاقبة ﴿وكنا﴾ أي: بما جبلنا عليه ﴿قوماً ضالين﴾ في ذلك عن الحق أقوياء في موجبات الشقوة فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة.
﴿ربنا﴾ يا من عودنا بالإحسان ﴿أخرجنا منها﴾ أي: من النار تفضلاً منك على عادة فضلك وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك ﴿فإن عدنا﴾ إلى مثل ذلك الضلال ﴿فإنا ظالمون﴾ لأنفسنا، ثم استأنف جوابهم بأن:
﴿قال﴾ لهم بلسان ملك بعد قدر الدنيا مرتين كما يقال للكلب ﴿اخسؤوا﴾ أي: انزجروا زجر الكلاب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان ﴿فيها﴾ أي: النار ﴿ولا تكلمون﴾ أصلاً، فإنكم لستم بأهل لمخاطبتي لأنكم لن تزالوا متصفين بالظلم فييأس القوم بعد ذلك، ولا يتكلموا بكلمة إلا الزفير والشهيق والعواء كعواء الكلاب، وقال القرطبي: إذا قيل لهم ذلك انقطع رجاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض فانطبقت عليهم، وعن ابن عباس أنّ لهم ست
الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق لأنه تعالى وصفه بكونه فوزاً عظيماً، وأيضاً فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى من إعطاء تلك الأجرة.
ولما بيّن تعالى الدليل وشرح الوعد والوعيد قال تعالى:
﴿فإنما يسرناه﴾ أي: سهلنا القرآن سهولة كبيرة ﴿بلسانك﴾ أي: هذا العربي المبين وهم عرب سجيتهم الفصاحة ﴿لعلهم يتذكرون﴾ أي: يفهمونه فيتعظون به وإن لم يتعظوا ولم يؤمنوا به.
﴿فارتقب﴾ أي: فانتظر ما يحل بهم ﴿إنهم مرتقبون﴾ أي: منتظرون ما يحل بك فمفعولا الارتقاب محذوفان أي: فارتقب النصر من ربك إنهم مرتقبون بك ما يتمنونه من الدوائر والغوائل ولن يضرك ذلك، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه ﷺ قال: «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفوراً له». رواه الترمذي وزاد الزمخشري: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ورواه البغوي عن أبي هريرة. قال ابن عادل: قال أبو أمامة رضي الله تعالى عنه: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة» والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة الجاثية
مكية إلا ﴿قل للذين آمنوا يغفروا﴾ الآية هي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي تفرد بتمام العز والكبرياء ﴿الرحمن﴾ الذي أحكم رحمته بالبيان العام للسعداء والأشقياء ﴿الرحيم﴾ الذي خص بملابسة طاعته الأولياء وتقدم الكلام على قوله تعالى:
﴿حم﴾ ثم إن جعلتها اسماً مبتدأ مخبراً عنه بقوله تعالى:
﴿تنزيل الكتاب﴾ أي: الجامع لكل خير لم يكن بد من حذف مضاف تقديره، تنزيل حم تنزيل الكتاب. وقوله تعالى: ﴿من الله﴾ أي: المحيط بصفات الكمال صلة للتنزيل، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان تنزيل الكتاب مبتدأ والظرف خبراً ﴿العزيز﴾ في ملكه ﴿الحكيم﴾ في صنعه.
ولما كانت الحواميم كما روى أبو عبيدة في كتاب الفضائل عن ابن عباس لبيان القرآن حذف ما ذكر في البقرة من قوله تعالى ﴿خلق﴾ ليكون ما هنا أشمل فقال تعالى:
﴿إن في السموات﴾ أي: ذواتها بما لها من الدلالة على صانعها وخلقها على ما فيها من العبر بما فيها من المنافع وعظيم الصنعة وما لها من الشفوف الدال على تعددها بما فيها من الكواكب ﴿والأرض﴾ كذلك وبما حوت من المعادن والمعاش ﴿لآيات﴾ أي: دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار فإن من المعلوم أنه لا بد لكل ذلك من صانع متصف بذلك وقال تعالى ﴿للمؤمنين﴾ لأنهم برسوخهم في هذا الوصف الشريف أهل للنظر لأن ربهم يهديهم بإيمانهم، فشواهد الربوبية لهم منهما لائحة وأدلة الإلهية فيهما واضحة.
ولما ذكر سبحانه وتعالى النظر في آيات الآفاق أتبعها آيات الأنفس بقوله تعالى:
﴿وفي خلقكم﴾ أي: خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن صار إنساناً المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار ﴿وما﴾ أي: وخلق ما ﴿يبث﴾ أي: ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية على سبيل
عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف، وقال آخرون: كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة إحداهما: في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ولولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وفي ذلك يقول الشاعر:
*قل للذي طلب السماحة والندى | هلا مررت بآل عبد مناف* |
*هلا مررت بهم تريد قراهم | منعوك من ضر ومن اتلاف* |
*الرائشين وليس يوجد رائش | والقائلين هلم للأضياف* |
*والخالطين فقيرهم بغنيهم | حتى يكون فقيرهم كالكافي* |
*والقائلين بكل وعد صادق | والراحلين برحلة الإيلاف* |
*عمرو العلا هشم الثريد لقومه | ورجال مكة مسنتون عجاف* |
*سفرين سنهما له ولقومه | سفر الشتاء ورحلة الأصياف* |
ولما كان هذا التدبير لهم من الله تعالى كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن، وكان شكر المنعم واجباً، قال تعالى: ﴿فليعبدوا﴾ أي: قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى، لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران ﴿رب هذا البيت﴾ أي: الموجد له والمحسن إلى أهله بحفظه من كل طاغ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم، وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة، والمراد به الكعبة عبر عنها بالإشارة تعظيماً لشأنها.
ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت بقوله تعالى:
﴿الذي أطعمهم﴾ أي: قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين إطعاماً مبتدأ ﴿من جوع﴾ أي: عظيم فيه غيرهم من العرب، أو كانوا هم فيه قبل ذلك؛ لأنّ بلدهم ليس بذي زرع فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع فكفاهم ذلك وحده، ولم يشركه أحد في كفايتهم فليس من الشكر إشراكهم غيره معه في عبادته، ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه السلام الذي دعا لهم بالرزق بقوله عليه السلام: ﴿وارزقهم من الثمرات﴾ (إبراهيم: ٣٧)
ونهى أشدّ النهي عن عبادة الأصنام ولم يقل أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ﴿وآمنهم﴾ أي: تخصيصاً لهم ﴿من خوف﴾ أي: شديد جدّاً من أصحاب الفيل الذين أرادوا خراب البيت الذي به نظامهم، وما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات، ومن الجذام بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام،