الكاذب، والخطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال، وقيل للمنافقين. وأم: بمعنى همزة الإنكار. ﴿ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم﴾ أي: علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل، وعبر تعالى بلما دون لم لدلالتها مع استغراق الزمان على أن تبين ما بعدها متوقع كائن، وقوله تعالى: ﴿ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة﴾ عطف على جاهدوا داخل في حيز الصلة كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذي وليجة من دون الله. والوليجة: فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة: هي الخيانة. وقال عطاء: هي الأولياء. ﴿وا خبير بما تعملون﴾ من مولاة المشركين وغيرها، فيجازيكم عليه.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ رضي الله عنه عليه القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليّ: وهل لكم محاسن؟ قال: نعم نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فأنزل الله تعالى رداً على العباس.
﴿ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله﴾ أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مسجد الله بدخوله والقعود فيه وخدمته، فإذا دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذنه لم يعزر، لكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أنّ النبيّ ﷺ شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر، وذهب جماعة إلى أنّ المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد وترميمه عند خرابه فيمنع منه الكافر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون السين ولا ألف بعدها على التوحيد، وفي هذا دلالة على أن المراد المسجد الحرام. والباقون بفتح السين، وألف بعدها على الجمع. وفيه دلالة على أن المراد جميع المساجد، وقيل: المراد على القراءتين المسجد الحرام، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع. وقوله تعالى: ﴿شاهدين على أنفسهم بالكفر﴾ حال من الواو في يعمروا، أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم، قال الحسن: لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، وذلك أنّ كفار قريش كانوا نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف بثياب قد عملنا فيها المعاصي وكلما طافوا أسبوعاً سجدوا للأصنام فلم يزدادوا من الله إلا بعداً. وقيل: هو قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل: من أنت؟ فيقول: نصراني، واليهوديّ يقول: يهودي، والمشرك يقول: مشرك. ﴿أولئك حبطت﴾ أي: بطلت ﴿أعمالهم﴾ أي: الأعمال التي عملوها من أعمال البر وافتخروا بها مثل العمارة والحجابة والسقاية، وفك العناة مع الكفر لا تأثير لها ﴿وفي النار هم خالدون﴾ لجعلهم الكفر
مكان الإيمان.
تصغيراً للبثهم وتحقيراً له بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من دوام العذاب قال بعضهم:
*لا أن أيام الشقاء طويلة
... كما أن أيام السرور قصار
وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمز بعدها وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ثم:
﴿قال﴾ الله تعالى لهم على لسان الملك: ﴿إن﴾ أي: ما ﴿لبثتم﴾ أي: في الدنيا ﴿إلا قليلاً﴾، لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلاً في جنب ما يلبث في الآخرة ﴿لو أنكم كنتم تعلمون﴾ أي: في عداد من يعلم في ذلك الوقت لما آثرتم الفاني على الباقي ولأقبلتم على ما ينفعكم ولتركتم أفعالكم التي لا يرضاها عاقل، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وقرأ حمزة والكسائي: قل؛ أمراً، والباقون: قال؛ خبراً، ولبثتم تقدم مثله، وتوجيه قال وقل، ثم وبخهم الله تعالى على تغافلهم بقوله تعالى:
﴿أفحسبتم أنما خلقناكم﴾ على ما لنا من العظمة، وقوله تعالى: ﴿عبثاً﴾ حال أي: عابثين كقوله: لاعبين، أو مفعول له أي: ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي ﴿و﴾ حسبتم ﴿أنكم إلينا لا ترجعون﴾ في الآخرة للجزاء، وروى البغوي بسنده عن أنس «أن رجلاً مصاباً مرَّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، ثم ختم السورة فبرىء فقال رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال»، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم، والباقون بضم الفوقية وفتح الجيم، ثم نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما يقوله ويصفه به المشركون بقوله تعالى:
﴿فتعالى الله﴾ أي: الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث، وغيره مما لا يليق به ﴿الملك﴾ أي: المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة وحفظاً ورعاية ﴿الحق﴾ أي: الذي لا يتطرق الباطل إليه في شيء في ذاته ولا في صفاته فلا زوال له ولا لملكه ﴿لا إله إلا هو﴾ فلا يوجد له نظير أصلاً في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو متعالٍ عن سمات النقص والعبث، ثم زاد في التعيين والتأكيد والتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره بقوله تعالى: ﴿رب العرش﴾ أي: السرير المحيط بجميع الكائنات التي تنزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذا وصفه بالكرم فقال: ﴿الكريم﴾ أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين، ولما بيّن سبحانه وتعالى أنه الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادّعى إلهاً آخر، فقد ادعى باطلاً بقوله تعالى:
﴿ومن يدع مع الله﴾ أي: الملك الذي لا كفء له ﴿إلهاً آخر﴾ يعبده ﴿لا برهان له به﴾ أي: بسبب دعائه بذلك إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، ثم ذكر أنّ من قال ذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله تعالى: ﴿فإنما حسابه﴾ أي: جزاؤه الذي لا يمكن زيادته ولا نقصه ﴿عند ربه﴾ أي: الذي رباه ولم يربه أحد سواه الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته، فلا يخفى عليه شيء من أمره، ولما افتتح السورة بقوله: ﴿قد أفلح المؤمنون﴾ ختمها بقوله: ﴿إنه لا يفلح الكافرون﴾ أي: لا يسعدون، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ولما شرح الله تعالى أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله تعالى:
﴿وقل رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ ﴿اغفر وارحم﴾ أي: أكثر من هذين
بوعيد عظيم لهم فقال تعالى:
﴿ويل لكل أفاك﴾ أي: مبالغ في صرف الحق عن وجهه ﴿أثيم﴾ أي: مبالغ في اكتساب الإثم وهو أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار، قال المفسرون: يعني النضر ابن الحارث والآية عامة فيمن كان موصوفاً بهذه الصفة وفسر هذا بقوله تعالى:
﴿يسمع آيات الله﴾ أي: دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها ﴿تتلى عليه﴾ بجميع ما فيها وهي القرآن من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز وهي القرآن العظيم، فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق، وقرأ حمزة والكسائي بإمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿ثم يصر﴾ أي: يدوم دواماً عظيماً على قبح ما هو فيه حال كونه ﴿مستكبراً﴾ أي: طالباً للكبر عن الإذعان وموجداً له ﴿كأن﴾ أي: كأنه ﴿لم يسمعها﴾ أي: حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء ﴿فبشره﴾ أي: على هذا الفعل الخبيث ﴿بعذاب أليم﴾ أي: مؤلم، والبشارة على الأصل أو التهكم، وقرأ ابن كثير وحفص ﴿أليم﴾ بالرفع والباقون بالجر.
﴿وإذا علم﴾ أي: بلغه ﴿من آياتنا﴾ أي: القرآن ﴿شيئاً﴾ وعلم أنه من آياتنا ﴿اتخذها هزواً﴾ أي: مهزواً بها.
تنبيه: في الضمير المؤنث وجهان؛ أحدهما: أنه عائد على ﴿آياتنا﴾ يعني القرآن، والثاني: أنه يعود على ﴿شيئاً﴾ وإن كان مذكراً لأنه بمعنى الآية كقول أبي العالية:

*نفسي بشيء من الدنيا معلقة الله والقائم المهدي يكفيها*
لأنه أراد بشيء جاريةً يقال لها: عنبة، والمعنى: اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال: ﴿اتخذها﴾ للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمد ﷺ خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد وقوله تعالى ﴿أولئك لهم عذاب مهين﴾ أي: ذو إهانة إشارة إلى معنى ﴿كل أفاك أثيم﴾ (الشعراء: ٢٢٢)
ليدخل فيه جميع الأفاكين، فحمل أولاً على لفظها فأفراد ثم على معناها فجمع كقوله تعالى ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ (الروم: ٣٢)
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب فقال:
﴿من ورائهم﴾ أي: أمامهم لأنهم في الدنيا ﴿جهنم﴾ قال الزمخشري: والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام قال:
*أليس ورائي إن تراخت منيتي أدبّ مع الولدان أزحف كالنسر*
ومنه قوله تعالى ﴿من ورائهم﴾ أي: من قدامهم ا. هـ ثم بين تعالى أن ما سلكوه في الدنيا لا ينفعهم بقوله تعالى: ﴿ولا يغني﴾ أي: ولا يدفع ﴿عنهم ما كسبوا﴾ من الأموال في رحلهم ومتاجرهم والأولاد ﴿شيئاً﴾ من الإغناء. وقوله تعالى: ﴿ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء﴾ أي: من الأوثان عطف على ﴿ما كسبوا﴾ و ﴿ما﴾ فيهما إما مصدرية، أو بمعنى الذي أي: لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ أي: لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولاعضواً من أعضائهم إلا ملأه، فإن قيل: قال تعالى في الأول ﴿مهين﴾ وفي الثاني ﴿عظيم﴾ فما الفرق بينهما؟ أجيب: بأن كون العذاب مهيناً يدل على حصول العذاب مع الإهانة، وكونه عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضرر وقوله تعالى:
﴿هذا هدى﴾ إشارة إلى القرآن يدل عليه قوله تعالى ﴿والذين كفروا بآيات ربهم﴾ هي القرآن أي: هذا القرآن كامل في الهداية
الجنة».
واختلف فيمن نزل ذلك فيه، فقال مقاتل: في العاص بن وائل السهمي. وقال السديّ: في الوليد بن المغيرة. وقال الضحاك: في عمرو بن عابد المخزومي. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: في رجل من المنافقين. وقيل: في أبي جهل. ﴿ {
{ولا يحض﴾
أي: يحث نفسه ولا غيره ﴿على طعام المسكين﴾ أي: بذله له وإطعامه إياه، بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه، وقد تضمن هذا أنّ علامة التكذيب بالبعث إيذاء الضعيف، والتهاون بالمعروف
ولما كان هذا مع الخلائق أتبعه حاله مع الخالق بقوله تعالى:
﴿فويل﴾ أي: عذاب، أو واد في جهنم ﴿للمصلين الذين هم﴾ أي: بضمائرهم وخالص سرائرهم ﴿عن صلاتهم﴾ التي هي جديرة بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها ﴿ساهون﴾ أي: عريقون في الغفلة عنها وتضييعها، وعدم المبالاة بها، وقلة الالتفات إليها. وروى البغويّ بسنده أنّ النبيّ ﷺ سئل عن هذه الآية فقال: «هو إضاعة الوقت». وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس ويصلونها في العلانية مع الناس إذا حضروا» لقوله تعالى:
﴿الذين هم﴾ أي: بجملة سرائرهم ﴿يراؤون﴾ أي: بصلاتهم وغيرها الناس، لأنهم يفعلون الخير ليراهم الناس لا لرجاء الثواب، ولا لخوف العقاب من الله تعالى، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس. وقال إبراهيم: هو الذي يلتفت في صلاته. وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين. وقال عطاء: الحمد لله الذي قال تعالى: ﴿عن صلاتهم ساهون﴾ ولم يقل في صلاتهم ساهون فدل على أنّ الآية في المنافقين وقال قتادة: ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصلّ. وقال مجاهد: غافلون عنها متهاونون بها. وقال الحسن: هو الذي إن صلاها صلاها رياء، وإن فاتته لم يندم، وقيل: هم الذي يسهون عنها قلة مبالاة بها حتى تفوتهم، أو يخرج وقتها، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله ﷺ والسلف، ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع، ولا اجتناب لما يكره فيها من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السورة، وكما ترى صلاة أكثر من ترى من الذين عادتهم الرياء بأعمالهم، ومنع حقوق أموالهم والمعنى: أنّ هؤلاء أحق أن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين.
والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام علماً على أنهم مكذبون بالدين، وكم ترى من المتسمين بالإسلام بل بالعلم من هو منهم على هذه الصفة فيا مصيبتاه.
فإن قيل: كيف جعل المصلين قائماً مقام ضمير الذي يكذب، وهو واحد؟ أجيب: بأن معناه الجمع لأنّ المراد به الجنس. فإن قيل: أي: فرق بين قوله تعالى: ﴿عن صلاتهم﴾ وقولك في صلاتهم؟ أجيب: بأن معنى عن أنهم ساهون عنها سهو ترك وقلة التفات إليها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين، ومعنى في أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم.
وكان رسول الله ﷺ يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. وعن أنس الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم، وقد مرّت


الصفحة التالية
Icon