لا أدع إلا مسلماً» فأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن قدم منهم تاجراً ثلاثاً وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول وأمّا في العرض فمن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشأم.
والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر أن يقيم فيها بذمّة أو أمان لكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم لحاجة.
وقوله تعالى: ﴿بعد عامهم هذا﴾ إشارة إلى العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونادى عليّ رضي الله عنه ببراءة وهو سنة تسع من الهجرة وقبل سنة حجة الوداع ولما أمر رسول الله ﷺ علياً أن يقرأ على مشركي مكة أوّل براءة وينبذ إليهم عهدهم وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة لانقطاع السبيل وفقد الحمولات وذلك أنّ أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون فلما امتنعوا من دخول الحرم خافوا الفقر وضيق العيش فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى ﴿وإن خفتم عيلة﴾ أي: فقراً وحاجة بانقطاع تجارتهم عنكم ﴿فسوف يغنيكم الله من فضله﴾ أي: من عطائه وتفضله من وجه آخر وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل المطر عليهم مدراراً فكثر خيرهم وأسلم أهل جدّة وصنعاء وتبالة وجرش وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله تعالى ما كانوا يخافون، وتبالة بفتح التاء وجرش بضمّ الجيم وفتح الراء وشين معجمة قريتان من قرى اليمن وقيد ذلك بقوله تعالى: ﴿إن شاء﴾ لتنقطع الآمال إليه تعالى ولينبه على أنه متفضل في ذلك وأنّ الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام. دون عام ﴿إنّ الله﴾ أي: الذي له الإحاطة الكاملة ﴿عليم﴾ أي: بوجوه المصالح ﴿حكيم﴾ أي: فيما يعطي ويمنع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال من أين تأكلون فأمرهم الله تعالى بقتال أهل الكتاب كما قال تعالى: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون با ولا باليوم الآخر﴾ (التوبة، ٢٩)
فإن قيل: اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟ أجيب: بأنّ من اعتقد أن العزير ابن الله وأنّ المسيح ابن الله فليس بمؤمن بل هو مشرك وبأنّ من كذب رسولاً من الرسل فليس بمؤمن واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء ﴿ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله﴾ من الشرك وأكل أموال الناس بالباطل وتبديل التوراة والإنجيل وغير ذلك ﴿ولا يدينون دين الحق﴾ أي: الثابت الذي هو ناسخ لسائر الأديان وهو الإسلام كما قال تعالى: ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾ (آل عمران، ١٩)
﴿من الذين أوتوا الكتاب﴾ أي: اليهود والنصارى بيان للذين لا يؤمنون ﴿حتى يعطوا الجزية﴾ وهي الخراج المضروب على رقابهم في نظير سكناهم في بلاد الإسلام آمنين مأخوذ من المجازاة لكفنا عنهم.
وقيل من الجزاء بمعنى القضاء قال الله تعالى: ﴿واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً﴾ (البقرة، ٤٨)
أي: لا تقضي وقوله تعالى: ﴿عن يد﴾ حال من الضمير أي: منقادين مقهورين يقال لكل من أعطي شيئاً كرهاً من غير طيب نفس أعطي عن يد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وهل يجوز أن يوكلوا مسلماً في دفعها أو لا ينبغي على تفسير الصغار المذكور في قوله تعالى: ﴿وهم صاغرون﴾
من الشهداء؛ لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة، ومذهب الشافعي أنه لا يقبل في ذلك كما قدّمناه ﴿فشهادة أحدهم﴾ أي: فالواجب شهادة أحدهم على من رماها أو فعليهم شهادة أحدهم ﴿أربع شهادات﴾ من خمس في مقابلة أربعة شهداء ﴿بالله﴾ أي: مقرونة بهذا الاسم الكريم الأعظم الموجب لاستحضار جميع صفات الجلال والجمال ﴿إنه لمن الصادقين﴾ أي: فيما قذفها به، وقرأ حفص وحمزة والكسائي برفع العين على أنه خبر شهادة والباقون بنصبها على المصدر ﴿والخامسة أن لعنت الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿عليه﴾ أي: القاذف نفسه ﴿إن كان من الكاذبين﴾ فيما رماها به، وقرأ نافع بتخفيف أن ساكنة ورفع لعنة، والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب لعنة ورسمت لعنة بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ووقف الباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حدّ القذف عليه وحصول الفرقة بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله ﷺ «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد إن تعرض له فيه وثبوت حدّ الزنا على المرأة بقوله تعالى: ﴿ويدرأ﴾ أي: يدفع ﴿عنها﴾ أي: المقذوفة ﴿العذاب﴾ أي: المعهود وهو الحدّ الذي أوجبه عليها كما تقدّم ﴿أن تشهد أربع شهادات﴾ من خمس ﴿بالله﴾ الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا كما تقدم في الزوج ﴿إنه لمن الكاذبين﴾ فيما قاله عليها ﴿والخامسة﴾ من الشهادات ﴿أن غضب الله﴾ الذي له الأمر كله ﴿عليها إن كان
من الصادقين﴾
أي: فيما رماها به.
روى البخاري في تفسيره وغيره عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ﷺ بشريك بن سحماء، فقال له النبي ﷺ البينة أو حد في ظهرك فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي ﷺ يقول: البينة أو حد في ظهرك، فقال هلال بن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: ﴿والذين يرمون أزواجهم﴾ حتى بلغ ﴿إن كان من الصادقين﴾، فانصرف النبي ﷺ فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية، فشهد والنبي ﷺ يقول: والله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة أوقفوها وقالوا: إنها موجبة؛ قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، وقال النبي ﷺ أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين، فهو لشريك بن سمحاء، فجاءت به كذلك، فقال النبي ﷺ لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن».
وقد روى البخاري أيضاً عن سهل ابن سعد أنّ سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر رضي الله عنه وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدّة أسباب معاً أو متفرقة.
تنبيه: خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه
﴿كنتم﴾ بما هو لكم كالجبلات ﴿تعملون﴾ أي: مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر، فإن قيل: الجثو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة؟ أجيب: بأن الجاثي الآمن يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً.
﴿هذا كتابنا﴾ أي: الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام ﴿ينطق﴾ أي: يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق ﴿عليكم بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم وذلك بأن يقول: من عمل كذا فهو عاص، ومن عمل كذا فهو مطيع فينطبق ذلك على ما عملتموه سواء بسواء من غير زيادة ولا نقصان، وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق وكانوا كأنهم يقولون ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان؟ قال تعالى مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك ﴿إنا﴾ أي: على ما لنا من العظمة المغنية عن الكتابة ﴿كنا﴾ على الدوام ﴿نستنسخ ما كنتم﴾ طبعاً لكم وخلقاً ﴿تعملون﴾ قولاً وفعلاً ونية أي: نأمر الملائكة عليهم السلام بكتبها وإثباتها عليكم، وقيل: نستنسخ أي: نأخذ نسخه وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله تعالى منه ما كان له من ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب، والاستنساخ من اللوح المحفوظ، تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ من كتاب كتاب، وقال الضحاك: نستنسخ أي: نثبت، وقال السدي: نكتب، وقال الحسن: نحفظ.
ثم بين تعالى أحوال المطيعين بقوله تعالى:
﴿فأما الذين آمنوا﴾ أي: من الأمم الجاثية ﴿وعملوا﴾ أي: تصديقاً لدعواهم الإيمان ﴿الصالحات﴾ أي: الطاعات فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه ﴿فيدخلهم﴾ أي: في ذلك اليوم ﴿ربهم﴾ أي: المحسن إليهم بالتوفيق بالإيمان ﴿في رحمته﴾ التي من جملتها الجنة والنظر إلى وجهه الكريم الذي هو الغاية القصوى وتقول لهم الملائكة تشريفاً: سلام أيها المؤمنون ودل على عظمة الرحمة بقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ أي: الإحسان العالي المنزلة ﴿هو﴾ أي: لا غيره ﴿الفوز المبين﴾ أي: الظاهر الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره لأنّه لا يشوبه كدر أصلاً ولا نقص بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا فإنها مع كونها كانت فوزاً كانت خفية جداً على غير الموقنين. ثم بين تعالى أحوال الفريق الآخر بقوله تعالى:
﴿وأما الذين كفروا﴾ أي: ستروا ما أمر الله تعالى به ﴿أفلم﴾ أي: فيقال لهم ألم ﴿تكن﴾ تأتيكم رسلي فلم تكن ﴿آياتي﴾ على ما لها من عظمة إضافتها إلي وأعظمها القرآن ﴿تتلى﴾ أي: تواصل قراءتها من أي تال كان فكيف إذا كانت بواسطة الرسل تلاوة مستعلية ﴿عليكم﴾ لا تقدرون على دفع شيء منها.
تنبيه: حذف المقول المعطوف عليه كما تقرر اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة ﴿فاستكبرتم﴾ أي: فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع إن طلبتم الكبر لأنفسكم أوجدتموه على رسلي وآياتي ﴿وكنتم قوماً﴾ أي: ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه ﴿مجرمين﴾ أي: غريقين في قطع ما يستحق الوصل وذلك هو الخسران المبين.
﴿وإذا﴾ أي: وكنتم إذا ﴿قيل﴾ أي: من أي قائل كان ولو على سبيل
إلى اسم الذات. ﴿ {
وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة والباقون بالفتح، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة، روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع {والفتح﴾
، أي: فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ومع رسول الله ﷺ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوزان وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فأعتقهم رسول الله ﷺ وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فيأ فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه﴾ (آل عمران: ٨٥)
وقيل: المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم. فإن قيل: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ أجيب: بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها قال الشاعر:

*إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي بلاد تميم وانصري آل عامر*
ويروى:
*إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي بلاد تميم وانصري أرض عامر*
والفتح فتح البلاد، وقال الرازي: الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به، والنصر كالسبب فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.
فإن قيل: إنّ رسول الله ﷺ كان دائماً منصوراً بالدلائل والمعجزات فما المعنى: بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة؟.
أجيب: بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل: النصر لا يكون إلا من الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم﴾ (آل عمران: ١٢٦)
فما فائدة التقييد بنصر الله؟ أجيب: بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى، كما يقال هذا صنعة زيد إذا كان مشهوراً بإحكام الصنعة والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا. فإن قيل: الذين أعانوا رسول الله ﷺ على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله ﷺ نصر الله فما السبب في ذلك؟ أجيب: بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث وهو من الله تعالى، فإن قيل: فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّماً على فعل الله تعالى، وهذا بخلاف النصر لأنه تعالى قال: ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ (محمد: ٧)
فجعل نصره مقدّماً على نصره لنا؟ أجيب: بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله تعالى، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية.
ولما عبر عن المعنى: بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى:
﴿ورأيت﴾، أي: ببصرك ((الناس))، أي: العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس كما دلت عليه لام


الصفحة التالية
Icon