شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.
﴿يريدون﴾ أي: رؤساء اليهود والنصارى ﴿أن يطفئوا نور الله﴾ أي: شرعه وبراهينه الدالة على واحدانيته وتقديسه عن الولد أو القرآن أو نبوّة محمد ﷺ ﴿بأفواههم﴾ أي: بأقوالهم الكاذبة وشركهم وفي تسمية دينه أو القرآن أو نبوّة محمد ﷺ نوراً ومعاندتهم إطفاءه بأفواههم تمثيل لحالهم في طلبهم أن يبطلوا نور الله بالتكذيب بالشرك بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه ﴿ويأبى الله﴾ أي: لا يرضى ﴿إلا أن يتمّ نوره﴾ بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام.
فإن قيل: كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ أجيب: بأنه أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل ﴿يريدون أن يطفئوا﴾ بقوله: ﴿ويأبى الله﴾ وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقوله تعالى: ﴿ولو كره الكافرون﴾ محذوف الجواب لدلالة ما قبله أي: ولو كرهوا غلبته.
﴿هو الذي أرسل رسوله﴾ محمداً ﷺ ﴿بالهدى﴾ أي: القرآن الذي أنزله عليه وجعله هادياً له ﴿ودين الحق﴾ أي: دين الإسلام ﴿ليظهره﴾ أي: ليعليه ﴿على الدين كله﴾ أي: جميع الأديان المخالفة له وهذا كالبيان لقوله تعالى: ﴿ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره﴾ ولذلك كرّر ﴿ولو كره المشركون﴾ غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضمو الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى.
فإن قيل: الإسلام لم يضمّ غالباً لسائر الأديان في أرض الصين والهند والروم وسائر بلاد الكفر أجيب عن ذلك بأوجه: الأوّل: بأنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشأم وما والاها إلى ناحية الروم والمغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عُبَّاد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الهند والترك وكذا سائر الأديان فثبت أنّ الذي أخبر الله تعالى عنه في هذه الآية قد وقع وحصل فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
الوجه الثاني: ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بجعل الإسلام غالباً على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام فإنه لا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج.
الوجه الثالث: أنّ المراد إظهاره في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار، وقال ابن عباس: الهاء في ﴿ليظهره﴾ إلى الرسول ﷺ والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها.
﴿يأيها الذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار﴾ أي: علماء اليهود ﴿والرهبان﴾ أي: عباد النصارى ﴿ليأكلون﴾ أي: يتناولون ﴿أموال الناس بالباطل﴾ كالرشا وإنما عبر بالأكل لأنه معظم المراد من المال وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأن يفعلوا ما ينافى مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه بإظهار الزهد والمبالغة في التدين قال الرازي: ولعمري من تأمّل أحوال الناس في زماننا وجد هذه الآيات كأنها
وجلد فيه، وروي عن عائشة أنها برأته من ذلك، انتهى. وقال غيره: والله لا أظن به ذلك أصلاً وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطىء الثقة لأسباب لا تحصى كما يعرف ذلك من مارس نقل الأخبار وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي ﷺ والمدافعة عنه والذم لأعدائه، وقد شهد النبي ﷺ أن جبريل معه وهو القائل يمدح عائشة ويكذب من نقل عنه ذلك:
*حصان رزان ما تزن بريبة
... وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
*حليلة خير الناس ديناً ومنصباً
... نبي الهدى والمكرمات الفواضل
*عقيلة حي من لؤي بن غالب
... كرام المساعي مجدها غير زائل
*مهذبة قد طيب الله خيمها
... وطهرها من كل شين وباطل
*وإن كانت ما بلغت عني قلته
... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
*فكيف وودي ما حييت ونصرتي
... لآل رسول الله زين المحافل
*له رتبة عال على الناس فضلها
... تقاصر عنها سورة المتطاول
وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، فإن هذه القصة عبرة لمن اعتبر فإن أهل الإفك استمروا في هذا أكثر من شهر والله تعالى عالم بما يقولون، وإن قولهم يكاد يقطع الأكباد في أحب خلقه إليه وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه ولكنه سبحانه أراد لناس رفع الدرجات ولآخرين الهلكات ولا بأس ببيان غريب هذه الألفاظ التي وقعت في هذه القصة من كلام عائشة وغيرها قولها: إذن أي: أعلم بالرحيل، وقولها فقدت عقداً لي من جزع أظفار: هو نوع من الخرز وهو الحجر اليماني المعروف، وقولها: لم يهبلن أي: لم يكثر لحمهنّ من السمن فيثقلن، وقولها إنما يأكلن العلقة من الطعام وهو بضم العين أي: البلغة من الطعام وهي قدر ما يمسك الرمق وقولها: ليس بها منهم داعٍ ولا مجيب أي: ليس بها أحد لا من يدعو ولا من يرد جواباً، وقولها: فيممت أي: قصدت، وقولها: قد عرس من وراء الجيش، فأدلج التعريس نزول المسافر بالليل للراحة والإدلاج بالتشديد سيراً آخر الليل وبالتخفيف سير الليل كله، وقولها: باسترجاعه هو قول القائل: إنا لله وإنا إليه راجعون. قولها: خمرت أي: غطيت وجهي بجلبابي أي: إزاري، وقولها: موغرين في نحو الظهيرة الوغر: شدّة الحر وكذلك نحر الظهيرة أي: أولها، وقولها: والناس يفيضون أي: يخوضون ويتحدثون، وقولها: وهو يريبني يقال: رابني الشيء يريبني أي: تشككت فيه، وقولها: ولا أرى من النبي اللطف أي: الرفق بها، واللطف في الأفعال الرفق، وفي الأقوال لين الكلام، وقولها: حين نقهت أي: أفقت من المرض والمناصع المواضع الخالية تقضى فيها الحاجة من غائط وبول، وأصله المكان الواسع الخالي والمرط كساء من صوف أو خز، قولها فقالت: تعس مسطح أي: خسر، وقولها: يا هنتاه أي: يا بلهاء كأنها نسبتها إلى البله وقلة المعرفة، وقولها: لا يرقأ أي: لا ينقطع، وقول بريرة: إن رأيت بمعنى النفي أي: ما رأيت منها أمراً أغمصه عليها بالصاد المهملة أي: أعيبه، والداجن الشاة التي
تألف البيت وتقيم به، وقوله ﷺ من يعذرني أي: إن أنا أكافئه
أشابة أم تابة، أي: هالكة من الهرم والتعجيز، والمعنى: هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجراً ليرمي به النبيّ ﷺ وقيل: رماه به فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم: خسرت يده، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، أو عبر باليدين لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما. وقال يمان بن رباب: صفرت من كل خير حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفاً يقول:
*لقد خلوك وانصرفوا... فما آبوا ولا رجعوا*
*ولم يوافوا نذورهم... فتباً للذي صنعوا*
وقيل: المراد باليدين دينه ودنياه، أو أولاه وعقباه، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة وبالأخرى دفع المضرّة، أو لأنّ اليمين سلاح واليسرى جنة. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ ﷺ واسمه عبد العزى. فإن قيل:: لماذا كني بذلك ولم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم؟ أجيب: عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسماً كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم، أو لتلهب وجنتيه وكان مشرق الوجه أحمره؟ وأجيب عن الثاني بوجوه: أحدها: أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم، ثانيها: أن اسمه، كان عبد العزى كما مرّ فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم. ثالثها: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته فكان جديراً بأن يذكر بها، كقولهم: أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه، أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لما كناه والكنية تكرمة، ثم ذكر ثلاثة أجوبة إمّا لشهرته بكنيته، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اه. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص وهو عكس قول تقدّم. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء، والباقون بفتحها وهما لغتان بمعنى نحو: النهر والنهر
وقوله تعالى: ﴿وتب﴾ خبر كما يقال: أهلكه الله وقد هلك، فالأول: أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني: أخرج مخرج الخبر فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، وقيل: المراد ماله وملكه كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وبالثاني نفسه.
ولما دعا ﷺ أقربيه إلى الله تعالى وخوّفهم، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي بمالي وولدي فأنزل الله تعالى:
﴿ما أغنى عنه﴾ أي: عن أبي لهب ﴿ماله﴾، أي: الكثير الذي جرت العادة أنه منج من الهلاك، فإنه كان صاحب مواش كثيرة. ﴿وما كسب﴾، أي: من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يؤذي بها النبيّ ﷺ وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبيّ ﷺ فقال النبيّ ﷺ «اللهمّ سلط عليه كلباً من كلابك فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة، لا بدّ أن تدركه فسافر إلى الشأم فأوصى به الرفاق لينجوه من هذه الدعوة فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها، والركاب محيطة


الصفحة التالية
Icon