﴿فتوبوا إلى بارئكم﴾ وترتيب الأمر بالقتل عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثلهم في الغباوة وأنّ من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن يستردّ منه ما أنعم به عليه ولذلك أمروا بفك تركيب ذواتهم بالقتل ﴿إنه هو التوّاب﴾ أي الذي يكثر قبول التوبة من المذنبين ﴿الرحيم﴾ أي: البالغ في الإنعام على خلقه.
﴿س٢ش٥٥/ش٥٨ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن؟ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى؟ كُلُوا؟ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ؟ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُو؟ا؟ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا؟ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا؟ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا؟ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا؟ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ؟ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾
﴿وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ وذلك أنّ الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين رجلاً من خيار قومه وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا ذلك فخرج موسى إلى طور سينا لميقات ربه فقالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال لهم: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام فغشي الجبل كله فدخل في الغمام وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام وخرّوا سجداً وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب وسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه وأسمعهم الله تعالى: إني أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل عليهم فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة عياناً وذلك أنّ العرب تجعل العلم بالقلب رؤية فقالوا جهرة: ليعلم أنّ المراد منه العيان، روي عن السوسي إمالة الألف بعد الراء في نرى وترقيق اللام من اسم الله، وروي عنه تفخيم اللام مع الإمالة وله وجه ثالث كالجماعة وهو عدم الإمالة مع تفخيم اللام.
فإن قيل: كيف تمال الألف وهي تسقط عند التقاء الساكنين؟ أجيب: بأنه لولا إمالتها ما أميلت الراء لأنّ القارىء إذا أراد أن يميل الألف لا يتمكن من الإمالة إلا بإمالة ما قبله ﴿فأخذتكم الصاعقة﴾ أي: الصيحة فمتم، وقيل: جاءت نار من السماء فأحرقتهم وذلك لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته رؤية الأجسام في الجهات والأحياز المقابلة للرائي وهي محال بل المراد أن يرى رؤية منزهة عن الكيفية وذلك للمؤمنين في الآخرة ولأفراد من الأنبياء في بعض الأحوال في الدنيا ﴿وأنتم تنظرون﴾ أي: ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت، وقيل: تعلمون ويكون النظر بمعنى العلم فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرّع ويقول: ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلاً بعد رجل بعدما ماتوا ليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون كما قال تعالى:
﴿ثم بعثناكم﴾ أي: أحييناكم والبعث إثارة الشيء عن محله يقال: بعثت البعير فانبعث وبعثت النائم فانبعث ﴿من بعد موتكم﴾ بسبب الصاعقة. قال قتادة: أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا، وقيد البعث بعد الموت لأنه قد يكون عن إغماء أو نوم كقوله تعالى: ﴿فضربنا على آذانهم في الكهف﴾ (الكهف، ١١) إلى أن قال: ﴿ثم بعثناهم﴾ أي: من النوم ﴿لعلكم تشكرون﴾ نعمة لبعث أو ما كفرتموه من النعم المتتابعة.
﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ في التيه يقيكم حرّ الشمس،
تنوين ونصب الراء، أي: عمل الكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح والباقون بفتح الميم ورفع اللام منونة ورفع الراء، أي: ذو عمل غير صالح أو صاحب عمل غير صالح، فجعل ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة ترتع:
*فإنما هي إقبال وإدبار
واختلف علماء التفسير هل كان ذلك الولد ابن نوح أو لا على أقوال: الأوّل: وهو قول ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرين: إنه ابنه حقيقة ويدل عليه أنه تعالى نص عليه فقال: ﴿ونادى نوح ابنه﴾ ونوح أيضاً نص عليه فقال: ﴿يا بنيّ﴾ وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه وأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة. القول الثاني: أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر، وقول الحسن البصري. والقول الثالث: وهو قول مجاهد والحسن: أنه ولد حنث ولد على فراشه ولم يعلم نوح بذلك، واحتج هذا القائل بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط ﴿فخانتاهما﴾ (التحريم، ١٠). قال الرازي: وهذا قول واهٍ حيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو خلاف نص القرآن. وقد قيل لابن عباس: ما كانت تلك الخيانة؟ فقال: كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به. ﴿فلا تسألني ما ليس لك به علم﴾ أي: بما لا تعلم أصواب هو أم لا؟ لأنّ اللائق بأمثالك من أولي العزم بناء أمورهم على التحقيق. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والباقون بسكون اللام وتخفيف النون وأثبت الياء بعد النون. في الوصل دون الوقف ورش وأبو عمرو وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً ﴿إني أعظك﴾ أي: بمواعظي كراهة ﴿أن تكون من الجاهلين﴾ فتسأل كما يسألون. وإنما سمى نداءه سؤالاً لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله واستنجازه في شأن ولده.
﴿قال﴾ نوح ﴿رب إني أعوذ بك أن﴾ أي: من أن ﴿أسألك﴾ في شيء من الأشياء ﴿ما ليس لي به علم﴾ تأدباً بأدبك واتعاظاً بوعظك ﴿وإلا تغفر لي﴾ أي: الآن ما فرط مني وفي المستقبل ما يقع مني ﴿وترحمني﴾ أي: تستر زلاتي وتمحها وتكرمني ﴿أكن من الخاسرين﴾ أي: الغريقين في الخسارة. فإن قيل: هذا يدل على عصمة الأنبياء لوقوع هذه الزلة من نوح عليه السلام؟ أجيب: بأنّ الزلة الصادرة من نوح إنما هي كونه لم يستقص ما يدل على نفاق ابنه وكفره؛ لأنّ قومه كانوا على ثلاثة أقسام: كافر يظهر كفره، ومؤمن يخفي إيمانه، ومنافق لا يعلم حاله في نفس الأمر. وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلوماً، وأما أهل النفاق فبقي أمرهم مخفياً، وكان ابن نوح منهم، وكان يجوز فيه كونه مؤمناً، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون للأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فأخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم عليه السلام في الأكل من الشجرة فلم يصدر عنه إلا الخطأ في الاجتهاد، فلم تصدر منه معصية، فلجأ إلى ربه تعالى وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة كما قال آدم عليه السلام: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ (الأعراف، ٢٣) لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.
﴿قيل﴾ أي: قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى: ﴿يا نوح اهبط﴾ أي: انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض المستوية ﴿بسلام﴾ أي: بعظم وأمن وسلامة ﴿منا﴾ وذلك أنّ الغرق لما كان عاماً في جميع
أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله:
*وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً | لقلبك يوماً أتعبتك المناظر* |
واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف: فقال مجاهد ومقاتل: بياذا الجلال والإكرام، وقال الكلبي: يا حيّ يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها، وعن الحسن يا الله يا رحمن، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علماً وفهماً أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.
قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها: أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى، ومنها: أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق، ومنها: أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.
﴿فلما رآه﴾ أي: رأى سليمان العرش ﴿مستقرّاً عنده﴾ أي: حاصلاً بين يديه ﴿قال﴾ شاكراً لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق ﴿هذا﴾ أي: الإتيان المحقق ﴿من فضل ربي﴾ أي: المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئاً فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر، ولذلك قال ﴿ليبلوني﴾ أي: ليختبرني ﴿أأشكر﴾ فاعترف بكونه فضلاً ﴿أم أكفر﴾ بظني أني أوتيته باستحقاق.
تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل ورش وابن كثير، ولورش أيضاً إبدالها ألفا، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله ﴿ومن شكر﴾ أي: أوقع الشكر لربه ﴿فإنما يشكر لنفسه﴾ فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة ﴿ومن كفر﴾ أي: بالنعمة ﴿فإنّ ربي﴾ أي: المحسن إليّ
أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى: ﴿أن﴾ أي: كراهة أن ﴿تحبط﴾ أي: تفسد فتسقط ﴿أعمالكم﴾ التي هي الأعمال بالحقيقة، وهي الحسنات كلها ﴿وأنتم لا تشعرون﴾ أي: بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا أجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر، روى أنس بن مالك قال: «لما نزل قوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم﴾ الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ ﷺ فسأل النبيّ ﷺ سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله ﷺ فقال ثابت: نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله ﷺ فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد لنبيّ ﷺ فقال بل هو من أهل الجنة».
وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال: وما يبكيك يا ثابت. قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله ﷺ وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله ﷺ فأتى عاصم رسول الله ﷺ فأخبره خبره فقال: اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.
فقال له: إنّ رسول الله ﷺ يدعوك. فقال: اكسر الضبة فأتيا رسول الله ﷺ فقال له النبيّ ﷺ ما يبكيك يا ثابت فقال: أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله ﷺ أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة. فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله ﷺ فأنزل الله عز وجل.
﴿إنّ الذين يغضون﴾ أي: يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين ﴿أصواتهم﴾ تخشعاً وتخضعاً ورعايةً للأدب وتوقيراً ﴿عند رسول الله﴾ أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب ﴿أولئك﴾ أي عالو الرتبة ﴿الذين امتحن الله﴾ أي: فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر ﴿قلوبهم للتقوى﴾ أي: اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. ﴿لهم مغفرة﴾ أي: لهفواتهم وزلاتهم ﴿وأجر عظيم﴾ لغضهم وسائر