ساكن القلب فيما وعده الله تعالى أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر: لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة لأبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول ﷺ مع أنه كان قبل ذلك ساكن النفس قويّ القلب. الثالث: إنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول ﷺ لوجب أن يقال: إنّ الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان خائفاً لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: «لا تحزن إنّ الله معنا» فمتى كان خائفاً لم يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان راجعاً إلى الرسول لوجب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه: «لا تحزن» فيكون ذلك مما يدلّ على فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنها حديث الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عن عائشة رضي الله عنها وعن أبويها قالت: لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين ولم يمرّ علينا يوم إلا ورسول الله ﷺ يأتينا طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي
المسلمون قال النبيّ ﷺ لأبي بكر: «إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان» فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة فقال له رسول الله ﷺ «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجون ذلك يا رسول الله قال: «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق الشجر وهو الخبط أربعة أشهر، قالت عائشة: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله ﷺ متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر: «أخرج من عندك» فقال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: «قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: «نعم» قال أبو بكر: فخذ إحدى راحلتيّ هاتين، قال رسول الله ﷺ «بالثمن» قالت عائشة: فجهزناهما أحبّ الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فسميت بذلك ذات النطاقين قالت: ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الرحمن بن أبي بكر وهو غلام شاب فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث واستأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً عارفاً بالهداية وهو على
دين كفار قريش
فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما بعد صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديليّ فأخذ بهم طريق الساحل فعلم بهم سراقة بن مالك المدلجي وكان كفار قريش جعلوا في رسول الله ﷺ وأبي بكر كل واحد منهما لمن قتله أو أسره دية قال سراقة فتبعتهم حتى دنوت فعثرت فرسي فخررت
بغير استئذان منكم، وذلك كبيوت الخانات والربط المسبلة ﴿فيها متاع﴾ أي: منفعة ﴿لكم﴾ والمنفعة فيها بالنزول وأنواع المتاع والاتقاء من الحر والبرد ونحو ذلك، وقال ابن زيد: هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلها للبيع والشراء وهو المنفعة، وقال إبراهيم النخعي: ليس على حوانيت الأسواق إذن، وكان ابن سيرين رحمه الله تعالى إذا جاء إلى حانوت السوقي يقول: السلام عليكم أدخل ثم يلج، وقال عطاء: هي البيوت الخربة والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها ﴿والله يعلم ما تبدون﴾ أي: تظهرون ﴿وما تكتمون﴾ أي: تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره، وفي ذلك وعيد من الله تعالى لمن دخل لفساد أو تطلع على عورات وسيأتي أنهم إذا دخلوا بيوتهم سلموا على أنفسهم.
والحكم السابع حكم النظر المذكور في قوله تعالى:
﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾ أي: عما لا يحل لهم نظره ﴿ويحفظوا فروجهم﴾ أي: عما لا يحل لهم فعله بها.
تنبيه: من للتبعيض، والمراد غض البصر عما لا يحل كما مرَّ والاقتصار به على ما يحل، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه.
فإن قيل: لم دخلت من في غض البصر دون حفظ الفرج؟ أجيب: بأن في ذلك دلالة على أن المراد أن أمر النظر أوسع بدليل جواز النظر للمحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأما نظر الفروج فالأمر فيه ضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء، وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار.
فإن قيل: لم قدم غض البصر على حفظ الفرج؟ أجيب: بأن البلوى فيه أشد. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال: سألت النبي ﷺ عن نظر الفجأة فقال: «اصرف بصرك». وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية» أخرجه أبو داود والترمذي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» ﴿ذلك﴾ أي: غض البصر وحفظ الفرج ﴿أزكى﴾ أي: خير ﴿لهم﴾ لما فيه من البعد عن الريبة، سئل الشيخ الشبلي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: ﴿يغضوا من أبصارهم﴾، فقال: أبصار الرؤوس عن المحرمات وأبصار القلوب عن المحرمات، ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنه خبير بأحوالهم وأفعالهم بقوله تعالى: ﴿إن الله﴾ أي: الملك الذي لا يخفى عليه شيء ﴿خبير بما يصنعون﴾ بسائر حواسهم وجوارحهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.
﴿وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن﴾ عما لا يحل لهن نظره ﴿ويحفظن فروجهن﴾ عما لا يحل لهن فعله بها، روي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «كنت عند رسول الله ﷺ وعنده ميمونة بنت الحرث إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال ﷺ احتجبا
لا أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوّذتين». وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله ﷺ قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوّذون؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال ﷺ قال: ﴿قل أعوذ برب الفلق﴾ و ﴿قل أعوذ بربّ الناس﴾. وما رواه الزمخشري ولم يقله البيضاوي هنا لكن قال في آخر السورة الآتية عن رسول الله ﷺ «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى» حديث موضوع.
سورة الناس مكية
وهي ست آيات وعشرون كلمة وتسعة وتسعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ المحيط بكل ما بطن كإحاطته بكل ظاهر ﴿الرحمن﴾ الذي عمت نعمته كل باد وحاضر ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ودّه بإتمام النعمة في جميع أمورهم الأوّل منها والأثناء والآخر.
ولما أمر الله تعالى نبيه بالاستعاذة مما تقدّم أمره أن يستعيذ من شر الوسواس بقوله تعالى:
﴿قل﴾، أي: يا أشرف المرسلين ﴿أعوذ﴾، أي: اعتصم والتجئ ﴿برب﴾، أي: مالك وخالق ﴿الناس﴾ وخصهم بالذكر وإن كان رب جميع المحدثات لأمرين: أحدهما: أنّ الناس يعظمون فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: أنه أمر بالاستعاذة من شرهم فاعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم. قال الملوي: والرب من له ملك الرق، وجلب الخيرات من السماء والأرض وإنقاذها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب. ﴿ {
وقوله تعالى: {ملك الناس﴾ إشارة إلى أنّ له كمال التصرف ونفوذ القدرة، وتمام السلطان فإليه الفزع، وهو المستغاث والملجأ والمنجا والمعاد. وقوله تعالى: ﴿إله الناس﴾ إشارة إلى أنه تعالى كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في ألوهيته أحد، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، فإنّ الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة الذي هو بمعنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال. والملك هو الآمر والناهي المعز المذل إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال، وأمّا الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى، ولتضمنها لجميع معاني الأسماء الحسنى كان المستعيذ جديراً بأن يعاذ، وقد يوقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الواحدانية لأنّ من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة علم أنّ له مربياً، فإذا درج في العروج في درج معارفه سبحانه علم أنه غني عن الكل والكل إليه محتاج، وعن أمره تعالى تجري أمورهم فيعلم أنه ملكهم، ثم يعلم بانفراده بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها.
فائدة: قد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من مالك، بخلاف الفاتحة كما مضى لأنّ المالك إذا أضيف إلى اليوم أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، وأنه لا أمر لأحد معه، ولا مشاركة في شيء من ذلك، وهو معنى الملك بالضم. وأمّا إضافة المالك إلى الناس فإنها لا تستلزم أن يكون ملكهم، فلو قرئ به هنا لنقص الملك بالضم، وأطبقوا في آل