وسلم لم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله تعالى كما تسمعون، وقال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ الله تعالى بالعفو قبل أن يعيره، وقال القاضي عياض في الشفاء: إن هذا أمر لم يتقدّم للنبي ﷺ فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولأعده الله تعالى معصية عليه بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك وليس عفا بمعنى غفر بل كما قال النبي ﷺ «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» ولم تجب عليهم قط أي: لم يكن يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب، من لا يعرف كلام العرب. وقال مكي: هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك. وقال السمرقندي: إن معناه عافاك الله، وقال الرازي: إن ذلك يدل على مبالغة الله في توقيره وتعظيمه كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده عفا الله عنك ما جوابك عن كلامي ورضي الله عنك ما صنعت في أمري فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التمجيد والتعظيم أي: كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا: أصلح الله الأمير والملك ونحو ذلك. ﴿حتى يتبين لك الذين صدقوا﴾ أي: في اعتذارهم ﴿وتعلم الكاذبين﴾ أي: فيما أظهروا من الإيمان باللسان لو لم يؤذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره قال ابن عباس: لم يكن رسول الله ﷺ يعرف المنافقين يؤمئذ حتى نزلت براءة.
﴿لا يستأذنك﴾ أي: لا يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه ﴿الذين يؤمنون با واليوم الآخر﴾ أي: الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب ﴿أن﴾ أي: في أن ﴿يجاهدوا﴾ وإنما حسن هذا الحذف لظهوره ﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لا نستأذنه ﷺ في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرّة بعد مرّة فأيّ فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا وكانوا بحيث لو أمرهم ﷺ بالقعود لشق عليهم كما وقع لعليّ رضي الله عنه في غزوة تبوك لما أمره رسول الله ﷺ بأن يبقى في المدينة شق عليه ولم يرض حتى قال له ﷺ «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» ﴿وا عليم بالمتقين﴾ أي: الذين يتقون مخالفته ويسارعون إلى طاعته.
﴿إنما يستأذنك﴾ يا محمد في التخلف عن الجهاد معك من غير عذر ﴿الذين لا يؤمنون با واليوم الآخر﴾ وهم المنافقون لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً ﴿وارتابت﴾ أي: شكت ﴿قلوبهم﴾ في الدين وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لأنه محل المعرفة والإيمان فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقاً ﴿فهم﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنهم ﴿في ريبهم يتردّدون﴾ أي: المنافقون ويتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين.
تنبيه: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآيات فقيل إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى: ﴿إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون با ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم﴾ (النو، ٦٢)
وقيل: إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة الله تعالى وجهاد عدوهم من غير
فقط أو الأنثيين فقط فكالفحل، وعن أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم. قال الزمخشري: فإن قلت: روي: «أنه أهدي لرسول الله ﷺ خصي فقبله» قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف وإن صح فلعله قبله ليعتقه أو لسبب من الأسباب، انتهى. وعندنا يجوز جميع ذلك إذ لا مانع منه، وقيل: المراد بأولي الإربة هو المخنث، وقرأ ابن عامر وشعبة بنصب الراء على الاستثناء والحال، والباقون بكسرها على الوصفية، وقوله تعالى: ﴿أو الطفل﴾ بمعنى الأطفال وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبينه ما بعده، وهو قوله تعالى: ﴿الذين لم يظهروا﴾ أي: لم يطلعوا ﴿على عورات النساء﴾ للجماع فيجوز لهن أن يبدين لهم ما عدا ما بين السرة والركبة؛ قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: إذا لم يبلغ الطفل حداً يحكي ما يراه فكالعدم أو بلغه من غير شهوة فكالمحرم، أو بشهوة فكالبالغ ﴿ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن﴾ وذلك أن المرأة كانت تضرب برجلها الأرض ليقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال، وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها على الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين فنهين عن ذلك لأن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وإذا وقع النهي عن إظهار صوت
الحلي فمواضع الحلي أبلغ في النهي وأوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها، وإن ضبط نفسه واجتهد ولا يخلو من تقصير يقع منه فلذلك قال تعالى: ﴿وتوبوا إلى الله﴾ أي: الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ﴿جميعاً أيها المؤمنون﴾ أي: مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره.
وشروط التوبة أن يقلع الشخص عن الذنب ويندم على ما مضى منه ويعزم على ألا يعود إليه ويرد الحقوق لأهلها، وقرأ ابن عامر في الوصل: أيها المؤمنون بضم الهاء لأنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها والباقون بفتحها، وأما الوقف فوقف أبو عمرو والكسائي بالألف بعد الهاء، ووقف الباقون على الهاء ساكنة ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي: تنجون من ذلك بقبول التوبة منه، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث، وعن ابن عباس توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: على هذا قد صحت التوبة بالإسلام لأنه يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة؟ أجيب: بأن بعض العلماء قال: إن من أذنب ذنباً ثم تاب لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه على عدم العودة إلى أن يلقى الله تعالى، والذي عليه الأكثر أنه لا يلزمه تجديدها.
وعن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى ربي كل يوم مائة مرة»، وعن ابن عمر قال: إنا كنا لنعدّ لرسول الله ﷺ في المجلس يقول: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة»، وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه»، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يسقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة».
ولما نهى عما سيفضي إلى السفاح المخل بالنسب المقتضي للألفة وحسن التربية ومزيد الشفقة المؤدية
والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة.
والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أنّ مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت.
وهذا آخر ما يسره الله تعالى من السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير فدونك تفسيراً كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد جمع من التفاسير معظمها ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها محرّر الدلائل في هذا الفنّ مظهراً لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جنّ، فإذا ظفرت بفائدة شاردة فادع لي بالتجاوز والمغفرة، أو بزلة قلم أو لسان فافتح لها باب التجاوز والمعذرة:
*فلا بدّ من عيب فإن تجدنه... فسامح وكن بالستر أعظم مفضل*
*فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له ال... محاسن قد تمت سوى خير مرسل*
وأنا أعوذ بجميع كلمات الله الكاملة التامّة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامّة من كل ما يكلم الدين ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر مستشفعاً إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلاً إليه بسيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وبالتوبة الممحصة للآثام وبما عنيت به من مصابرتي على تواكل من القوي، وتخاذل من الخطأ، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين، وعرق الجبين في عمل هذا التفسير المبين عن حقائقه المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه، المكتنز بالفوائد التي لا توجد إلا فيه المحيط بما لا يكتنه من بديع ألفاظه، ومعانيه مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول متوسط الحجم، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها. هذا ولسان التقصير في طول مدحه قصير:
أعيذه بالمصطفى... من حاسد قد هما
بذمّه وقد غدا... من أجله مهتما
فليس يبغي ذمّه... إلا بغيض أعمى
كفاه ربي شرهم... وزان منه الرسما
وزاد في تدبيرهم... تدميرهم والغما
وردّهم بغيظهم... فلم ينالوا غنما
وزاده سعادة... ولازمته النعمى
فنسأل الله الكريم الذي به الضر والنفع، والإعطاء والمنع أن يجعله لوجهه خالصاً، وإن يداركني بألطافه إذ الظل أضحى في القيامة قالصاً، وأن يتجاوز عني إنه السميع العليم، وأن يرفع به درجتي في جنات النعيم، وأن يجعله ذخيرة لي عنده إنه ذو الفضل العظيم، وأن ينفع به من تلقاه بالقبول إنه جواد كريم، وأن يخفف عني كل تعب ومؤنة، وأن يمدّني بحسن المعونة، وأن يهب


الصفحة التالية
Icon