عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم وإمّا لغيرهم والمراد به التحضيض عليها والآية وإن وردت بصيغة الاستفهام إلا أنّ المراد بها التقرير في النفس، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا أما علمت أنّ من علمك يجب عليك خدمته أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره. فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ترغيباً في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ترغيباً في التوبة ثم زاد تأكيداً بقوله تعالى: ﴿وأنّ الله هو التوّاب الرحيم﴾ أي: وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله يقبلها من عبده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من عبد مؤمن يتصدّق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب إلا يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى أنّ اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم، ثم قرأ: ﴿أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات﴾ ».
﴿وقل اعملوا﴾ أي: وقل لهم أو للناس يا محمد اعملوا ما شئتم ﴿فسيرى الله عملكم﴾ فإنه لا يخفى عليه شيء خيراً كان أو شرّاً، فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال: اجتهدوا في العمل في المستقبل فإنّ الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها ﴿و﴾ يرى أيضاً ﴿رسوله والمؤمنون﴾ أعمالكم، أما رؤية النبيّ ﷺ فبإطلاع الله إياه على أعمالكم، وأما رؤية المؤمنين فبقذف الله تعالى في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المفسدين ﴿وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة﴾ أي: وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سرّكم وعلانيتكم ولا يخفى عيه شيء من أعمال بواطنكم وظواهركم ﴿فينبئكم﴾ أي: فيخبركم ﴿بما كنتم تعملون﴾ من خير وشر فيجازيكم على أعمالكم.
واعلم أن الله تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام:
أوّلهم: المنافقون الذين مردوا على النفاق.
والثاني: التائبون وهم المرادون بقوله تعالى:
﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ وبين أنه تعالى قبل توبتهم.
والقسم الثالث: الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وآخرون﴾ أي: من المتخلفين ﴿مرجون﴾ أي: مؤخرون عن التوبة.
وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بغير همز بين الجيم والواو، والباقون بهمزة مضمومة بين الجيم والواو ﴿لأمر الله﴾ أي: لحكم الله تعالى فيهم، والفرق بين القسم الثاني وبين هذا أن أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها، قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وستأتي قصتهم عند قوله تعالى: ﴿وعلى الثلاثة الذين خلفوا﴾ تخلفوا كسلاً وميلاً إلى الراحة لا نفاقاً ولم يعتذروا إلى النبيّ ﷺ كغيرهم فوقف أمرهم خمسين ليلة حتى نزلت توبتهم بعد ﴿إمّا يعذبهم﴾ بأن يميتهم من غير توبة ﴿وإمّا يتوب عليهم﴾ إن تابوا.
فإن قيل: كلمة أما وإمّا للشك والله تعالى منزه عن ذلك. أجيب: بأن الترديد بالنسبة للعباد أي: ليكن أمرهم عندكم على هذا في الخوف والرجاء فإنّ الله تعالى لا تخفى عليه
فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً، ولما تكلم تعالى أولاً على التوحيد، وثانياً في الرد على عبدة غيره تكلم، ثالثاً في مسألة النبوة، وحكى شبه الكفار في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
الشبهة الأولى: قوله تعالى:
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي: مظهرو الوصف الذي حملهم على هذا القول، وهو ستر ما ظهر لهم ولغيرهم كالشمس والاجتهاد في إخفائه ﴿إن﴾ أي: ما ﴿هذا﴾ أي: القرآن ﴿إلا إفك﴾ أي: كذب مصروف عن وجهه ﴿افتراه﴾ اختلقه محمد ﷺ ﴿وأعانه عليه﴾ أي: القرآن ﴿قوم آخرون﴾ أي: من غير قومه، وهم اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم وهو يعبر عنها بعبارته، وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي كانوا بمكة من أهل الكتاب فزعم المشركون أن محمداً يأخذ منهم فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: ﴿فقد جاؤوا﴾ أي: قائلوا هذه المقالة ﴿ظلماً﴾ وهو جعل الكلام المعجز إفكاً مختلقاً متلقفاً من اليهود، وجعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ﴿وزوراً﴾ أي: بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال، والباقون بالإدغام.
تنبيه: جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته، وظلماً مفعول به، وقيل: إنه على إسقاط الخافض أي: جاؤوا بظلم.
الشبهة الثانية: قوله تعالى:
﴿وقالوا أساطير الأولين﴾ أي: ما سطره الأولون من أكاذيبهم جمع أسطورة بالضم كأحدوثة، أو أسطار ﴿اكتتبها﴾ أي: تطلب كتابتها له من ذلك القوم وأخذها، والمعنى أن هذا القرآن ليس من الله تعالى إنما هو مما سطره الأولون الأول كأحاديث رستم واسفنديار استنسخها محمد من أهل الكتاب ﴿فهي﴾ أي: فتسبب عن تكلفه ذلك أنها ﴿تملى عليه﴾ أي: تقرأ عليه ليحفظها ﴿بكرة﴾ قبل أن تنتشر الناس ﴿وأصيلا﴾ أي: عشياً حين يأوون إلى مساكنهم، أو دائماً ليتكلف حفظها بالانتساخ؛ لأنه أمي لا يقدر أن يكرر من الكتاب، أو ليكتب وهذا كما ترى لا يقوله من له مسكة في عقل، أو مروءة كيف وهو يدعوهم إلى المعارضة ولو بسورة من مثله وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء، وهم أكثر منه مالاً وأعظم أعواناً ولا يقدرون على شيء منه، فإن قيل: كيف؟ قيل: اكتتبها فهي تملى عليه، وإنما يقال: أمليت عليه فهو يكتبها؟ أجيب: بوجهين: أحدهما: أراد اكتتابها وطلبه، فهي تملى عليه، الثاني: أنها كتبت له وهو أمي فهي تملى أي: تلقى عليه من كتاب ليحفظها؛ لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب، وقرأ ﴿فهي﴾ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بكسرها، ثم أمره الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: دالاً على بطلان ما قالوه ومهدداً لهم ﴿أنزله الذي يعلم السر﴾ أي: الغيب ﴿في السموات والأرض﴾ ؛ لأنه أعجزكم عن آخركم بفصاحته وتضمنه أخباراً عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلا عالم الأسرار، فكيف تجعلونه أساطير الأولين مع علمكم أن ما تقولونه باطل وزور؟ وكذلك باطن رسول الله ﷺ وبراءته مما يبهتونه، وهو يجازيكم على ما علم منكم وعلم منه.
فإن قيل: كيف يطابق هذا قوله تعالى: ﴿إنه كان﴾ أي: أزلاً وأبداً ﴿غفوراً رحيماً﴾ ؟ أجيب: بأنه لما كان ما يقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة


الصفحة التالية
Icon