المؤمنين} بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه ﴿أنفسهم﴾ التي تفرد بخلقها ﴿وأموالهم﴾ التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم وقدم النفس إشارة إلى أن المبايعة سابقة على اكتساب المال، ولما ذكر البيع أتبعه الثمن بقوله تعالى: ﴿بأنّ لهم الجنة﴾ مثل الله تعالى إثابتهم على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء.
وروي تاجرهم الله تعالى فأغلى لهم الثمن، وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً، وعن الحسن أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رازقها.
وروي أن الأنصار لما بايعت رسول الله ﷺ ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون به أنفسكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت.
ومرّ أعرابي على النبيّ ﷺ وهو يقرأها فقال: الأعرابي كلام من؟ قال عليه الصلاة والسلام: «كلام الله عز وجل»، فقال الأعرابي: والله بيع مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد.
وقال الحسن: اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة بايع الله تعالى بها كل مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة والمراد بالأموال إنفاقها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم، وفي جميع وجوه البر والطاعات، وقوله تعالى: ﴿يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون﴾ استئناف بيان ما لأجله الشراء، وقيل: يقاتلون في معنى الأمر. وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المقتولين على القاتلين لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب ولأن فعل البعض قد يسند إلى الكل أي: فيقتل بعضهم ويقاتل الباقي والباقون بتقديم القاتلين وقوله تعالى: ﴿وعداً عليه حقاً﴾ مصدران منصوبان بفعليهما المحذوفين ثم أخبر الله تعالى بأنّ هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت ﴿في التوراة﴾ كتاب موسى عليه السلام ﴿والإنجيل﴾ كتاب عيسى عليه السلام ﴿والقرآن﴾ أي: قد أثبته فيهما كما أثبته في القرآن أي: الكتاب الجامع لكل ما قبله ﴿ومن أوفى بعهده من الله﴾ أي: لا أحد أوفى منه سبحانه لأنّ الإخلاف لا تُقدِمُ عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق وقوله تعالى: ﴿فاستبشروا﴾ فيه التفات عن الغيبة أي: فافرحوا غاية الفرح ﴿ببيعكم الذي بايعتم به﴾ فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال تعالى: ﴿وذلك هو الفوز العظيم﴾.
تنبيه: هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيد: أوّلها: قوله تعالى: ﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾ بكون المشتري هو الله تعالى المقدّس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد، ثانيها: أنه تعالى عبر عن إيصاله هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد، ثالثها: قوله تعالى: ﴿وعداً﴾ ووعد الله تعالى حق، رابعها: قوله تعالى: ﴿عليه﴾ وكلمة على للوجوب، خامسها: قوله تعالى: ﴿حقاً﴾ وهو لتأكد التحقيق، سادسها: قوله تعالى: ﴿في التوراة والإنجيل والقرآن﴾ وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة، سابعها: قوله تعالى: ﴿ومن أوفى بعهده من الله﴾ وهو غاية في التأكيد، ثامنها: قوله تعالى: ﴿فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به﴾ وأيضاً هو مبالغة في التأكيد، تاسعها: قوله تعالى: ﴿وذلك هو الفوز﴾، وعاشرها قوله تعالى: ﴿العظيم﴾ فثبت
العقاب المعدّ للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة بقوله تعالى:
﴿ {قل﴾ أي: لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿أذلك﴾ أي: المذكور من الوعيد وصفة النار ﴿خير أم جنة الخلد﴾ أي: الإقامة الدائمة ﴿التي وعد المتقون﴾ أي: وعدها الله تعالى لهم، فالراجع إلى الموصوف وهو هاء وعدها محذوف.
فإن قيل: كيف يقال: العذاب خير أم جنة الخلد، وهل يجوز أن يقول القائل: السكر أحلى أم الصبر؟ أجيب: بأنه يحسن في معرض التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر، فضربه ويقول له: هذا خير أم ذلك؟ قال أبو مسلم: جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور، قال تعالى: ﴿لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً﴾ (الإنسان، ٩)
فإن قيل: الجنة اسم لدار الخلد، فأي فائدة في قوله تعالى: ﴿جنة الخلد﴾ ؟ أجيب: بأنّ الإضافة قد تكون للبيتين، وقد تكون لبيان صفة الكمال كقوله تعالى: ﴿هو الله الخالق البارئ﴾ (الحشر، ٢٤)
وهذا من هذا البيان أو للتمييز عن جنات الدنيا، ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله: ﴿كانت لهم جزاء﴾ أي: ثواباً على أعمالهم بفضل الله تعالى وكرمه ﴿ومصيراً﴾ أي: مرجعاً.
فإن قيل: إن الجنة ستصير للمتقين جزاءً ومصيراً لكنها بعدما صارت كذلك فلم قال تعالى: ﴿كانت﴾ ؟ أجيب: من وجهين: الأول: أن ما وعده الله تعالى فهو في تحققه كالواقع، الثاني: أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم، فإن قيل: لم جمع تعالى بين الجزاء والمصير؟ أجيب: بأن ذلك كقوله تعالى: ﴿نعم الثواب وحسنت مرتفقاً﴾ (الكهف، ٣١)، فمدح الثواب ومكانه، كما قال تعالى: ﴿بئس الشراب وساءت مرتفقاً﴾ (الكهف، ٢٩)
فذم العذاب ومكانه؛ لأن النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة، وإلا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.
تنبيه: المتقي يشمل من اتقى الكفر وإن لم يتق المعاصي وإن كان غيره أكمل، ثم ذكر تعالى تنعمهم فيها بعد أن ذكر نعيمهم بقوله تعالى:
﴿لهم فيها﴾ أي: الجنة ﴿ما يشاؤون﴾ من كل ما تشتهيه أنفسهم كما قال تعالى: ﴿ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم﴾ (فصلت، ٣١)
﴿وفيها ما تشتهي الأنفس﴾ (الزخرف، ٧١)
فإن قيل: أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لابد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم فإن أعطاها لهم لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها لهم قدح ذلك في قوله تعالى: ﴿لهم فيها ما يشاؤون﴾ ؟ أجيب: بأن الله تعالى يزيل هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم، وقوله تعالى: ﴿خالدين﴾ منصوب على الحال إما من فاعل يشاؤون، وإما من فاعل لهم لوقوعه خبراً، والعائد على ما محذوف أي: لهم فيها الذي يشاؤونه حال كونهم خالدين وقوله تعالى: ﴿كان على ربك﴾ أي: وعدهم ما ذكر ﴿وعداً﴾ يدل على أن الجنة جعلت لهم بحكم الوعد والتفضل لا بحكم الاستحقاق، وقوله تعالى: ﴿مسؤولاً﴾ أي: مطلوباً، اختلف في السائل، فالأكثر على أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا: ﴿ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك﴾ (آل عمران، ١٩٤)
روي أنه ﷺ قال: «ما منكم من يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من


الصفحة التالية
Icon