الآية، وقال أبو هريرة: زار النبيّ ﷺ قبر أمّه آمنة فبكى وأبكى من حوله وقال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزورها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت، وقال قتادة: قال النبيّ ﷺ «لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: تستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبيّ ﷺ فنزلت هذه الآية.
وروى الطبراني بسنده عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رجالاً قالوا: يا نبيّ الله إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الرحم ويفك العاني أفلا نستغفر لهم؟ فقال ﷺ «والله لأستغفرنّ لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله تعالى ﴿ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعدما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم﴾ أي: بأن ماتوا على الكفر قال البيضاوي: وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر فقال:
﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه﴾ أي: وعدها إبراهيم أباه بقوله: لأستغفرنّ لك أي: لأطلبنّ مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يجب أي: يقطع ويمحو ما قبله، وقرأ هشام: أبراهام بالألف بعد الهاء في الموضعين، والباقون بالياء فيهما ﴿فلما تبيّن له أنه عدو﴾ بأن مات على الكفر أو أوحى الله تعالى إليه إنه لن يؤمن ﴿تبرأ منه﴾ أي: قطع استغفاره ﴿إنّ إبراهيم لأوّاه﴾ أي: كثير التضرع والدعاء ﴿حليم﴾ أي: صبور على الأذى والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار لأبيه مع صعوبة خلق أبيه عليه.
﴿وما كان الله ليضل قوماً﴾ أي: يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم المنهي عنه ﴿بعد إذ هداهم﴾ للإسلام ﴿حتى يبيّن لهم﴾ بياناً شافياً لداء العمى ﴿ما يتقون﴾ أي: ما يجب اتقاؤه للنهي، أمّا قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه، وقيل: إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر وغير ذلك، وفي الجملة دليل على أنّ الغافل غير مكلف ﴿إنّ الله بكل شيء عليم﴾ أي: بالغ العلم فهو يبيّن لكم ما تأتون وما تذرون مما يتوقف عليه الهدى وما تركه تعالى فإنما يتركه رحمة لكم لا يضل ربي ولا ينسى.
﴿إن الله له ملك السموات والأرض﴾ فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم أو يضرّكم ﴿يحيي ويميت﴾ أي: يحيي من شاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من شاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده ﴿وما لكم﴾ أيها الناس ﴿من دون الله﴾ أي: غيره ﴿من ولي﴾ يحفظكم منه ﴿ولا نصير﴾ يمنع عنكم ضرره.
﴿لقد تاب الله﴾ أي: أدام توبته ﴿على النبيّ والمهاجرين والأنصار﴾ وافتتح الله تعالى الكلام بذكر توبة النبيّ ﷺ لأنه كان سبب توبتهم فذكره معهم كقوله تعالى: ﴿فأنّ خمسه وللرسول﴾ (الأنفال، ٤١)
ونحوه، وقيل: هو بعث على التوبة والمعنى ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبيّ ﷺ والمهاجرون والأنصار لقوله تعالى: {وتوبوا
المرسلين إلا} وحالهم ﴿أنهم ليأكلون الطعام﴾ كما تأكل ويأكل غيرك من الآدمين ﴿ويمشون في الأسواق﴾ كما تفعل فهذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله وهم يعلمون ذلك بالسماع من أخبارهم، وهذا تأكيد من الله تعالى؛ لأنهم لا يكذبونه ﷺ وقيل: معنى الآية وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قد قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك﴾ (فصلت، ٤٣)
﴿وجعلنا﴾ أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة ﴿بعضكم﴾ أي: أيها الناس ﴿لبعض فتنة﴾ أى: بلية والمعنى: أنه تعالى ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم والعدواة لهم وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف، وجعل الغني فتنة للفقير والصحيح فتنة للمريض والشريف فتنة للوضيع، يقول الثاني من كل: مالي لا أكون كالأول؟ وقال ابن عباس: جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم فتتبعوا الهدى أم لا، وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاصي بن وائل والنضر بن الحرث، وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة ومن دونهم قد أسلموا قبلهم، فقالوا: أنسلم ونكون مثل هؤلاء؟ وقيل: جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا، فتكون ممزوجة بالدنيا، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي وقوله تعالى: ﴿أتصبرون﴾ أي: على ما تسمعون مما ابتليتم، به استفهام بمعنى الأمر أي: اصبروا ﴿وكان ربك﴾ أي: المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك لا سيما بجعلك نبياً عبداً ﴿بصيراً﴾ أي: بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان لم يفده ذلك علماً لم يكن عنده، ولكن يعلم ذلك شهادة كما يعلم علم الغيب، ولتقوم عليهم بذلك الحجة فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، فإن صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين.
روي أنه ﷺ قال: «إذا نظر أحدكم من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم»، وروي: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم حذر أن تزدروا نعمة الله عليكم». الشبهة الرابعة: لمنكري نبوة محمد ﷺ قوله تعالى:
﴿وقال الذين لا يرجون لقاءنا﴾ أي: لا يخافون البعث، قال الفراء: الرجاء بمعنى الخوف لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: ﴿ما لكم لا ترجون لله وقاراً﴾ (نوح، ١٣)
أي: لا تخافون لله عظمة ﴿لولا﴾ أي: هلا ولم لا ﴿أنزل﴾ أي: على أي وجه كان من أي منزل كان ﴿علينا الملائكة﴾ كما نزلت عليه فيما يزعم وكانوا رسلاً إلينا، أو فتخبرنا بصدقه ﴿أو نرى ربنا﴾ بما له علينا من الإحسان، وبما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة؛ قال الله ردّاً عليهم: ﴿لقد استكبروا﴾ أي: تعظموا ﴿في﴾ شأن ﴿أنفسهم﴾ أي: أظهروا الاستكبار عن الحق، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال تعالى: ﴿إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه﴾ (غافر، ٥٦)
﴿وعتوا﴾ أي: تجاوزوا الحد في الظلم ﴿عتواً كبيراً﴾ أي: بالغاً أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات الظاهرة، فأعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، واللام جواب قسم محذوف، وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ تعجب، ألا ترى


الصفحة التالية
Icon