بقية أحكام الجهاد فعلى الأوّل يقال: وما استقام لهم أن ينفروا جميعاً لنحو غزو وطلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعاً فإنه يخلّ بأمر المعاش ﴿فلولا﴾ أي: فهلا ﴿نفر من كل فرقة﴾ أي: قبيلة ﴿منهم طائفة﴾ أي: جماعة ومكث الباقون ﴿ليتفقهوا﴾ أي: ليتكلفوا الفقاهة ﴿في الدين﴾ ويتجشموا مشاق تحصيلها ليعرفوا الحلال من الحرام ويعودوا إلى أوطانهم ﴿ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم﴾ أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم وتخصيصه بالذكر لأنه أهمّ وفيه دليل على أنّ التفقه والتذكير من فروض الكفاية وأنه ينبغي أن يكون غرض المتكلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس وصرف وجوههم إليه والتبسط في البلاد ليدخل في قوله ﷺ «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وفي قوله ﷺ «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» وفي قوله ﷺ «من سلك طريقاً يلتمس فيها علماً سهل الله تعالى له طريقاً إلى الجنة» ﴿لعلهم يحذرون﴾ عقاب الله تعالى بامتثال أمره ونهيه، وعلى الاحتمال الثاني يقال: إنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنين إلى النفير وانقطعوا عن التفقه فأمروا بأن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويمكث الباقون يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأنّ الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفي رجعوا للطوائف ولينذروا لباقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم قال ابن عباس: فهذه مخصوصة بالسرايا والتي قبلها بالنهي عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم
أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر ﷺ أوّلاً بإنذار عشيرته الأقربين، وقد حارب رسول الله ﷺ قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام، وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر، وقيل: الروم لأنهم كانوا يسكنون الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ما لم يضطرّوا إلى أهل ناحية أخرى ﴿وليجدوا فيكم غلظة﴾ أي: شدّة وصبراً على القتال والغلظة ضدّ الرقة أي: اغلظوا عليهم ﴿واعلموا أنّ الله مع المتقين﴾ بالعون والنصرة والحراسة.
﴿وإذا ما أنزلت سورة﴾ من القرآن ﴿فمنهم﴾ أي: المنافقين ﴿من يقول﴾ أي: لأصحابه إنكاراً واستهزاءً بالمؤمنين ﴿أيكم زادته هذه﴾ السورة ﴿إيماناً﴾ أي: تصديقاً، قال الله تعالى: ﴿فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً﴾ بزيادة العلم الحاصل في تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم ﴿وهم يستبشرون﴾ أي: يفرحون بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم ﴿وأما الذين في قلوبهم مرض﴾ أي: شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى علاج ﴿فزادتهم﴾ أي: السورة أي: نزولها ﴿رجساً إلى رجسهم﴾ أي: كفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها ﴿وماتوا﴾ أي: هؤلاء المنافقون ﴿وهم كافرون﴾ أي: وهم جاحدون لما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم
بابها من التفضيل، والمعنى: أن المؤمنين خير في الآخرة مستقراً من مستقر الكفار، وأحسن مقيلاً من مقيلهم ولو فرض أن يكون لهم ذلك أو على أنهم خير في الآخرة منهم في الدنيا.
والثاني: أن يكون لمجرد الوصف من غير مفاضلة ومن ذلك المعنى قوله تعالى: ﴿إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون﴾ (يس، ٥٥)
ذكروا في تفسير الشغل افتضاض الأبكار، وإنما سمي مكان دعتهم واسترواحهم الحور مقيلاً مع أنه لا نوم في الجنة على طريق التشبيه. ثم عطف تعالى على قوله تعالى يوم يرون قوله تعالى:
﴿ويوم تشقق السماء﴾ أي: كل سماء ﴿بالغمام﴾ أي: كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها، وهو غيم أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
تنبيه: في هذه الباء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها سببية، أي: بسبب الغمام يعني سبب طلوعه منها، ونحوه ﴿السماء منفطر به﴾ (المزمل، ١٨)
كأنه الذي تتشقق به السماء، الثاني: أنها للحال أي: ملتبسة بالغمام، الثالث: أنها بمعنى عن أي: عن الغمام كقوله تعالى: ﴿يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً﴾ (ق، ٤٤)
والباء وعن يتعاقبان تقول: رميت عن القوس، وبالقوس، وقرأ أبو عمرو والكوفيون بتخفيف الشين، والباقون بتشديدها، ثم أشار تعالى إلى جهل من طلب نزول الملائكة دفعة واحدة بقوله تعالى: ﴿ونزل الملائكة﴾ أي: بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه بأمر من الأمور وغيره من الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد ﴿تنزيلاً﴾ أي في أيديهم صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس: تتشقق السماء الدنيا، فينزل أهلها، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها، وهم أكثر من أهل سماء الدنيا وأهل الأرض جناً وإنساً، ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يدورون على السماء التي قبلها، ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش.
فإن قيل: ثبت أن نسبة الأرض إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، فكيف تسع الأرض هؤلاء؟ أجاب بعض المفسرين: بأن الملائكة تكون في الغمام والغمام يكون مقر الملائكة، ويجوز أن الله تعالى يوسع الأرض حتى تسع الجميع، وقرأ ابن كثير بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الزاي ورفع اللام، ونصب الملائكة، والباقون بنون واحدة والزاي مشددة ونصب اللام ورفع الملائكة، ثم بين تعالى أن ذلك اليوم لا يقضي فيه غيره بقوله تعالى:
﴿الملك يومئذٍ﴾ أي: إذ تشقق السماء بالغمام، ثم وصف الملك بقوله تعالى: ﴿الحق﴾ أي: الثابت ثباتاً لا يمكن زواله، ثم أخبر عنه بقوله تعالى: ﴿للرحمن﴾ أي: العام الرحمة في الدارين، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل وده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة، فإن قيل: مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن، فما الفائدة في قوله تعالى: ﴿يومئذٍ﴾ ؟ أجيب: بأن في ذلك اليوم لا مالك له سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه، وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام ﴿وكان﴾ أي: ذلك اليوم الذي تظهر فيه الملائكة الذي طلب الكفار رؤيتهم له ﴿يوماً على الكافرين عسيراً﴾ أي: شديد العسر والاستعار.
تنبيه: هذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا جاء في الحديث «أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه