وقوله تعالى: ﴿أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون﴾ أي: لا يخافون ﴿نشوراً﴾ أي: بعثاً بعد الموت؛ لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن منهم ذلك تمكيناً لا ينفع معه الاعتبار إلا من شاء الله.
﴿وإذا رأوك﴾ أي: مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك ولو لم تأتهم بمعجزة فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول ﴿إن﴾ أي: ما ﴿يتخذونك إلا هزواً﴾ أي: مهزوء بك وعبر تعالى بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده ﷺ عن ذلك يقولون: ﴿أهذا الذي بعث الله رسولاً﴾ أي: في دعواه محتقرين له أن تأتيه الرسالة، وقولهم.
﴿إنْ﴾ مخففة من الثقيلة أي: إنه ﴿كاد ليضلنا﴾ أي: يصرفنا ﴿عن آلهتنا﴾ أي: عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد وكثرة ما يورد مما سبق إلى الذهن أنها حجج ومعجزات ﴿لولا أن صبرنا﴾ أي: بما لنا من الاجتماع والتعاضد ﴿عليها﴾ أي: على التمسك بعبادتها قال الله تعالى: ﴿وسوف يعلمون﴾ أي: في حال لا ينفعهم فيه العمل ولا العلم وإن طالت مدة الإمهال في التمكين ﴿حين يرون العذاب﴾ عياناً في الآخرة ﴿من أضل سبيلاً﴾ أي: أخطأ طريقاً أهم أم المؤمنون، ولما كان ﷺ حريصاً على رجوعهم ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم سلاه تعالى بقوله تعالى متعجباً من حالهم:
﴿أرأيت﴾ أي: أخبرني ﴿من اتخذ إلهه هواه﴾ أي: أطاعه وبنى عليه دينه، لا سمع حجة ولا نظر دليلاً فإن قيل: لم أخر هواه والأصل قولك: اتخذ الهوى إلهاً؟ أجيب: بأنه ما هو إلا تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية كما تقول: علمت منطلقاً زايداً لفضل عنايتك بالمنطلق، ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله تعالى تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله تعالى: ﴿أفأنت تكون عليه وكيلاً﴾ أي: حافظاً تحفظه من اتباع هواه لا قدرة لك على ذلك.
﴿أم تحسب أن أكثرهم﴾ أي: هؤلاء المدعوّين ﴿يسمعون﴾ أي: سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم ﴿أو يعقلون﴾ أي: كالبهائم ما يرون، وإن لم يكن لهم سمع حتى تطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر فإن قيل: إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث إليهم الرسول، فإن من شرط التكليف العقل؟ أجيب: بأنه ليس المراد أنهم لا يعقلون شيئاً بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم: إنما أنت أعمى وأصم فإن قيل: لم خص الأكثر بذلك دون الكل؟ أجيب: بأنه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق فكابر استكباراً وخوفاً على الرياسة.
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي استأنف ما أفهمه بقوله تعالى: ﴿إن﴾ أي: ما ﴿هم إلا كالأنعام﴾ أي: في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات ﴿بل هم أضل﴾ أي: منها ﴿سبيلاً﴾ لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي،