عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدّم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها ﴿وموعظة للمتقين﴾ الله من قومهم أو لكل متق سمعها وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم.
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم﴾ قرأ أبو عمرو بسكون الراء.
وروي عن الدوري اختلاس الحركة، والباقون بالحركة الكاملة، والحركة ضمة ﴿أن تذبحوا بقرة﴾ أوّل هذه القصة قوله تعالى: ﴿وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها﴾ (البقرة، ٧٢) وإنما فكت عنه وقدّمت عليه لاستقلاله بنوع آخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته أنه كان فيهم رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى فألقاه ببابها ثم أصبح يطلب ديته وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل فسألهم فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى، قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى ليدعو الله ليبيّن لهم بدعائه فدعا فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله فقال موسى: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴿قالوا أتتخذنا هزواً﴾ أي: أتستهزىء بنا نحن نسأل عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة، وإنما قالوا ذلك استبعاداً لما قاله واستخفافاً به، قرأ حمزة بسكون الزاي في الوصل وإذا وقف قال: هزواً بنصب الزاي من غير همز، وروي عنه الإدغام، وهو أن يشدّد الزاي، وقرأ حفص هزواً بضم الزاي بعدها واو مفتوحة وقفاً ووصلاً والباقون بضم الزاي بعدها همزة مفتوحة ﴿قال أعوذ﴾ أي: أمتنع ﴿با﴾ من ﴿أن أكون من الجاهلين﴾ لأنّ الهزء في مثل ذلك جهل وسفه، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعاً له فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله استوصفوه ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وكان تحته حكمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال: اللهمّ إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل فسارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان باراً بوالدته فكان يقسم
الليل أثلاثاً يصلي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمّه يوماً: إنّ أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع الله إله إبراهيم وإسمعيل وإسحق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمى الذهبية لحسنها وصفرتها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب فأقبلت تسعى إليه حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله وقالت: أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإنّ ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إنّ أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذ بعنقها، فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن يتقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمّك، فسار الفتى
الثاني محمرة وفي الثالث مسودّة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع، فلما رأوا وجوههم مسودّة أيقنوا حينئذٍ بالعذاب فتحنطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع كما قال تعالى: ﴿ذلك﴾، أي: الوعد العالي الرتبة في الصدق ﴿وعد غير مكذوب﴾، أي: فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله: ويومٍ شهدناه أي ورب يوم شهدنا فيه سليماً وعامراً. أو غير مكذوب على المجاز أو وعد غير كذب على أنه مصدر قوله تعالى:
﴿فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا﴾ في تفسيره، وقراءة الهمزتين وعدد الذين آمنوا معه مثل ما تقدّم في قصة عاد ﴿و﴾ نجيناهم ﴿من خزي يومئذ﴾ وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم من يومئذ على البناء لإضافتها إلى مبني، وكسرها الباقون على الإعراب والأوّل أكثر ﴿إنّ ربك هو القويّ﴾ فهو يغلب كل شيء ﴿العزيز﴾، أي: القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه، ثم أخبر تعالى عن عذاب قوم صالح بقوله:
﴿وأخذ الذين ظلموا﴾، أي: أنفسهم بالكفر ﴿الصيحة﴾، أي: صيحة جبريل عليه السلام، صاح بهم صيحة واحدة فهلكوا جميعاً أو أتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا جميعاً، كما قال تعالى: ﴿فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾، أي: باركين على الركب ميتين.
تنبيه: إنما قال تعالى وأخذ ولم يقل وأخذت؛ لأنّ الصيحة محمولة على الصياح، وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله تعالى:
﴿كأن﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: كأنهم ﴿لم يغنوا﴾، أي: يقيموا ﴿فيها﴾، أي: ديارهم ولم يسكنوها مدة من الدهر يقال: غنيت بالمكان إذا أقمت به. وقوله تعالى: ﴿ألا إنّ ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود﴾ تفسيره ما تقدّم في قوله تعالى: ﴿ألا إن عاداً كفروا ربهم﴾ (هود، ٦٠) الآية. وقرأ حفص وحمزة ألا إن ثمود بغير تنوين للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة، والباقون بالتنوين للذهاب إلى الحيّ أو إلى الأب الأكبر. ومَنْ نوّن وقف على ألف بعد الدال، ومن لم ينون وقف على الدال ساكنة. وقرأ الكسائي بعداً لثمودٍ بتنوين ثمود مع الكسر لما مرّ، والباقون بغير تنوين مع الفتح لما مرّ أيضاً.
القصة الرابعة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى﴾، أي: بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، والمراد بالرسل الملائكة، ولفظ رسلنا جمع وأقله ثلاثة، واختلف في الزائد على ذلك وأجمعوا على أنّ الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام، واقتصر ابن عباس وعطاء على أقل الجمع فقالا: كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الذاريات بقوله تعالى: ﴿هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين﴾ (الذاريات، ٢٤)، وفي الحجر: ﴿ونبئهم عن ضيف إبراهيم﴾ (الحجر، ٥١). وقال الضحاك: كانوا تسعة. وقال محمد بن كعب القرظي: كان جبريل ومعه سبعة أملاك. وقال السدي: كان جبريل ومعه أحد عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن. قال النحويون: ودخلت كلمة قد ههنا؛ لأنّ السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخلت اللام في لقد لتأكيد الخبر. ﴿قالوا سلاماً﴾، أي: سلمنا عليك سلاماً، ويجوز نصبه بقالوا
أي: الوصف بالإحاطة بصفات الكمال ﴿لله﴾ على إهلاك هؤلاء البعداء البغضاء، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك بقوله تعالى: ﴿وسلام على عباده الذين اصطفى﴾ أي: اصطفاهم، واختلف فيهم فقال مقاتل: هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى: ﴿وسلام على المرسلين﴾ (الصافات، ١٨١) وقال ابن عباس: في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد ﷺ وقيل: هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين تنبيه: سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه دعاء.
ولما بين أنه تعالى أهلكهم ولم تغن عنهم آلهتهم من الله شيئاً قال تعالى: ﴿آلله﴾ أي: الذي له الجلال والإكرام ﴿خير﴾ أي: لعباده الذين اصطفاهم وأنجاهم ﴿أم ما يشركون﴾ أي: الكفار من الآلهة خير لعبادها فإنهم لا يغنون عنهم شيئاً تنبيه: لكل من القراء السبعة في هاتين الهمزتين وجهان: الأوّل: تحقيق همزة الاستفهام وإبدال همزة الوصل ألفاً مع المدّ، والثاني: تحقيق همزة الاستفهام أيضاً وتسهيل همزة الوصل مع القصر، وقرأ أبو عمرو وعاصم يشركون بالياء التحتية بالغيبة حملاً على ما قبله من قوله تعالى: ﴿وأمطرنا عليهم مطراً﴾ وما بعده من قوله تعالى: ﴿بل أكثرهم﴾ والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وهو التفات للكفار، بعد خطاب نبيه ﷺ وهذا تبكيت للمشركين بحالهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة، فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم وتهكماً بهم وتسفيهاً لرأيهم إذ من المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازنون بينه وبين من هو مبتدأ كل خير.
وروي أنّ رسول الله ﷺ كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم»، ثم عدد سبحانه وتعالى أنواعاً من الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، الأوّل منها قوله تعالى:
﴿أم من خلق السموات والأرض﴾ أي: التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع، فإن قيل: ما الفرق بين أم وأم في ﴿أم ما يشركون﴾ و ﴿أم من خلق السموات﴾ ؟ أجيب: بأنّ تلك متصلة لأنّ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال الله خير أم الآلهة قال بل أم من خلق السموات والأرض خير تقريراً لهم بأنّ من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء ﴿وأنزل لكم﴾ أي: لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره ﴿من السماء ماء﴾ هو للأرض كالماء الدافق للأرحام ﴿فأنبتنا به حدائق﴾ جمع حديقة وهي البستان، وقيل: القطعة من الأرض ذات الماء.
قال الراغب: سميت بذلك تشبهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، وقال غيره: سميت بذلك لأحداق الجدران بها قاله ابن عادل، وليس بشيء لأنه يطلق عليها ذلك مع عدم الجدران ﴿ذات بهجة﴾ أي: بهاء وحسن ورونق وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها وتباين طعومها وأشكالها ومقاديرها وألوانها، ولما أثبت الإنبات له نفاه عن غيره بقوله تعالى: ﴿ما كان﴾ أي: ما صح وما تصوّر بوجه من الوجوه ﴿لكم﴾ وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات ﴿أن تنبتوا شجرها﴾ أي: شجر تلك الحدائق ﴿أإله مع الله﴾ أعانه على ذلك، أي: ليس معه إله ﴿بل هم﴾ أي: في ادعائهم معه سبحانه شريكاً
بفقراء أصحاب النبيّ ﷺ مثل عمار وخبيب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم. ومعنى الآية: لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم ثم علل النهي بقوله تعالى: ﴿عسى﴾ أي: لأنه جدير وخليق لهم ﴿أن يكونوا﴾ أي: المستهزأ بهم ﴿خيراً منهم﴾ فينقلب الأمر عليهم وتكون لهم سوء العاقبة. قال ابن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أحوّل كلباً وقال القشيري: ما استصغر أحد أحداً إلا سلط عليه ولا ينبغي أن يغتر بظاهر أحوال الناس، فإنّ في الزوايا خبايا. والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة وكذا في الخبر كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره.
﴿ولا﴾ يسخر ﴿نساء من نساء﴾ ثم علل النهي بقوله تعالى: ﴿عسى﴾ أي: ينبغي أن يخفن من ﴿أن يكن﴾ أي: المسخور بهنّ ﴿خيراً منهنّ﴾ أي الساخرات. روي أنها نزلت في نساء النبيّ ﷺ عيرن أمّ سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قال لها النساء يهودية بنت يهوديين.
تنبيهان: أحدهما: قال الرازي: القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم. والقائم بالأمور هم الرجال وعلى هذا ففي أفراد الرجال والنساء.
فائدة: وهي أنّ عدم الالتفات والاستحقار أن يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال لأنّ المرأة في نفسها ضعيفة، قال ﷺ «النساء لحم على وضم» فالمرأة لا يوجد منها استحقار لرجل لأنها مضطرّة إليه في رفع حوائجها، وأمّا الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهنّ ذلك.
الثاني: في حكمه قوله تعالى: ﴿عسى أن يكونوا خيراً منهم﴾ هي أنهم إذا وجدوا منهم التكبر المقتضى إلى إحباط العمل جعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم، وقال: أنا خير منه فصار هو خيراً منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى ﴿يكونوا﴾ أي يصيروا فإنّ من استحقر إنساناً لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويقوى الضعيف ﴿ولاتلمزوا﴾ أي تعيبوا على وجه الظهور الخفية ﴿أنفسكم﴾ بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها فكيف إذا كان على وجه فإنّكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة أو يعمل الإنسان ما يعاب به فيكون الإنسان قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن يبحث عن عيوبه فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾ أي: ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء فإنّ النبز يختص بلقب السوء.k
واختلف في هذا اللقب فقال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. وقال الحسن: كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقال عطاء: هو أن يقول الرجل لأخيه يا حمار يا خنزير
وعن ابن عباس: التنابز بالألقاب: هو أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله والحاصل أنه يحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لا يعرفه إلا به وأمّا ألقاب المدح فنعما هي فقد لقب الصديق بعتيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بن الوليد بسيف الله، ومازالت الألقاب


الصفحة التالية
Icon