وقوله تعالى: ﴿استكبرتم﴾ أي: تكبرتم عن اتباعه، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ ﴿ففريقاً﴾ أي: طائفة ﴿كذبتم﴾ كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل ﴿وفريقاً تقتلون﴾ كزكريا ويحيى عليهما السلام.
فإن قيل: هلا قال: وفريقاً قتلتم؟ أجيب: بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل. قال الزمخشري: أو أن يراد وفريقاً تقتلونهم بعد أي: الآن، لأنكم درتم حول قتل محمد لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، وقال ﷺ عند موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري».
﴿وقالوا﴾ للنبيّ ﷺ استهزاءً: ﴿قلوبنا غلف﴾ جمع أغلف أي: مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جئت به ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن كقولهم: ﴿قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه﴾ (فصلت، ٥)، وقيل: أصل غلف بالسكون غلف بالضم فخفف، والمعنى أنها أوعية العلم لا تسمع علماً إلا وعته ولا تعي ما تقول أي: فما تقوله ليس بعلم أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره، ثم ردّ الله تعالى عليهم أن تكون قلوبهم كذلك بقوله تعالى: ﴿بل﴾ للإضراب ﴿لعنهم الله بكفرهم﴾ أي: بسبب كفرهم، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ولكنّ الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم كما قال تعالى: ﴿فأصمهم وأعمى أبصارهم﴾ أو هم كفرة ملعونون فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك ﴿فقليلاً ما يؤمنون﴾ ما مزيدة لتأكيد القلة أي: إيمانهم إيمان قليل جدّاً وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل: أراد بالقلة العدم.
﴿س٢ش٨٩/ش٩١ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا؟ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا؟ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا؟ كَفَرُوا؟ بِهِ؟؟ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا؟ بِهِ؟؟ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا؟ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ؟ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ؟؟ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ؟ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُوا؟ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا؟ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ؟ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ؟ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَن؟بِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾
﴿ولما جاءهم كتاب من عند الله﴾ هو القرآن ﴿مصدّق لما معهم﴾ من كتابهم وهو التوراة لا يخالفه ﴿وكانوا﴾ أي: اليهود ﴿من قبل﴾ أي: من قبل مجيئه ﴿يستفتحون﴾ أي: يستنصرون ﴿على الذين كفروا﴾ أي: مشركي العرب إذا قابلوهم يقولون: اللهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته ونعته في التوراة ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ﴿فلما جاءهم﴾ أي: اليهود ﴿ما عرفوا﴾ من الحق وهو بعثة النبيّ ﷺ ﴿كفروا به﴾ حسداً أو خوفاً على الرياسة وجواب لما الأولى دل عليه جواب لما الثانية ﴿فلعنة الله﴾ أي: عذابه وطرده ﴿على الكافرين﴾ أي: عليهم، وإنما أتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم فتكون اللام للعهد ويجوز أن تكون للعموم ويدخلون فيه دخولاً أولياً أو قصدياً لأنهم المقصودون بالذات وتناول الكلام لغيرهم على سبيل التبع فهو كما إذا ظلمك إنسان فقلت: ألا لعنة الله على الظالمين كان ذلك الظالم أوّلياً أو مقصوداً في الدعاء والباقون تبعاً.
﴿بئس ما اشتروا﴾ أي: باعوا ﴿به أنفسهم﴾ أي: حظها من الثواب، وما نكرة بمعنى شيئاً مميزة لفاعل بئس المستكن أي: بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم ﴿أن يكفروا﴾ أي: كفرهم ﴿بما أنزل الله﴾ من القرآن ﴿بغياً﴾ أي: حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علة يكفروا ـ كما قال البيضاوي ـ دون اشتروا، وإن قاله الزمخشري لفصل المخصوص بين ﴿بغياً﴾ الذي هو العلة وبين المعلول وهو ﴿اشتروا﴾. وحسدوه على ﴿أن ينزل الله من فضله﴾ أي: الوحي ﴿على من يشاء﴾ للرسالة
لا عز لك، وقيل: أعمى بلغة حمير، قاله قتادة، وفي هذا تجويز العمي على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل، وقيل: ضعيف البصر، قاله الحسن. النوع الثالث: قولهم له: ﴿ولولا رهطك﴾، أي: عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم ﴿لرجمناك﴾ بالحجارة حتى تموت، والرهط من الثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى السبعة، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه. النوع الرابع: قولهم له: ﴿وما أنت علينا بعزيز﴾، أي: لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، ولما خوّف الكفار شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان: الأوّل:
﴿قال﴾ لهم ﴿يا قوم﴾ مستعطفاً لهم مع غلظتهم عليه ﴿أرهطي أعز عليكم من الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى ﴿واتخذتموه وراءكم ظهرياً﴾، أي: جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة لرسوله. قال في «الكشاف» : والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس أمسيّ بكسر الهمزة، وقوله: ﴿إنّ ربي بما تعملون محيط﴾، أي: إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها. النوع الثاني: قوله:
﴿ويا قوم اعملوا على مكانتكم﴾ والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله، والمعنى: اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ، ﴿إني﴾ أيضاً ﴿عامل﴾ بما آتاني الله من القدرة والطاعة ﴿سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب﴾ فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل: لم لم يقل فسوف تعلمون؟ أجيب: بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جواباً عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني، تقديره أنه لما قال: ﴿ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل﴾ فكأنهم قالوا: فماذا يكون بعد ذلك فقال: سوف تعلمون، فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل؛ لأنه استئناف. ﴿وارتقبوا﴾، أي: انتظروا عاقبة أمركم ﴿إني معكم رقيب﴾، أي: منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم، بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
﴿ولما جاء أمرنا﴾ بعذابهم وإهلاكهم ﴿نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة﴾، أي: بفضل ﴿منا﴾ بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل: لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء؟ أجيب: بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى: ﴿وعد غير مكذوب﴾ وقوله: ﴿إنّ موعدهم الصبح﴾ فلذلك جاءا بفاء السببية. ﴿أخذت الذين ظلموا﴾، أي: ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس. ﴿الصيحة﴾، أي: صيحة جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعاً، وقيل: أتتهم صيحة من السماء {فأصبحوا
ليتلاحقوا ولا يشذ منهم أحد ولا يزالون كذلك.
﴿حتى إذا جاؤوا﴾ إلى مكان الحساب ﴿قال﴾ أي: الله تعالى لهم ﴿أكذبتم﴾ أي: أنبيائي ﴿بآياتي﴾ التي جاؤوا بها ﴿و﴾ الحال أنكم ﴿لم تحيطوا بها﴾ أي: من جهة تكذيبكم ﴿علماً﴾ أي: من غير فكر ولا نظر يؤدّي إلى الإحاطة بما في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه وما يليق بها بدليل الأمر به فيه، وأم في قوله تعالى: ﴿أم ماذا﴾ منقطعة وتقدّم حكمها، وماذا يجوز أن يكون برمته استفهاماً منصوباً بتعلمون الواقع خبراً عن كنتم، وأن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا موصول خبره والصلة ﴿كنتم تعلمون﴾.
وعائده محذوف أي: أي شيء الذي كنتم تعملونه.
﴿ووقع القول﴾ أي: وجب العذاب الموعود ﴿عليهم بما ظلموا﴾ أي: بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما ينشأ عنه من الضلال في الأقوال والأفعال ﴿فهم لا ينطقون﴾ قال قتادة: كيف ينطقون ولا حجة لهم نظير قوله تعالى: ﴿هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون﴾ (المرسلات: ٣٥، ٣٦)
وقيل: لا ينطقون لأن أفواههم مختومة، ثم إنه تعالى لما خوّفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد والحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال.
﴿ألم يروا﴾ مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به ﴿أنا جعلنا﴾ أي: بعظمتنا الدالة على نفوذ مرادنا وفعلنا بالاختيار ﴿الليل﴾ أي: مظلماً ﴿ليسكنوا فيه﴾ عن الانتشار ﴿والنهار مبصراً﴾ أي: يبصر فيه ليتصرفوا فيه ويبتغوا من فضل الله فحذف من الأوّل ما ثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما ثبت نظيره في الأول إذ التقدير جعلنا الليل مظلماً كما مرّ ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ليتصرفوا فيه كما مرّ فحذف مظلماً لدلالة مبصراً وليتصرفوا لدلالة لتسكنوا فيه وقوله تعالى: ﴿مبصراً﴾ كقوله تعالى: ﴿آية النهار مبصرة﴾ (الإسراء: ١٢)
وتقدم الكلام على ذلك في الإسراء.
قال الزمخشري فإن قلت ما للتقابل لم يراع في قوله تعالى ليسكنوا ومبصراً حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً؟ قلت: هو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأنّ معنى مبصراً ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب، وأجاب غيره بأنّ السكون في الليل هو المقصود ولأن وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية ﴿إن في ذلك﴾ أي: هذا المذكور ﴿لأيات﴾ أي: دلالات بينة على التوحيد والبعث والنبوّة وغير ذلك وخص المؤمنين بقوله تعالى: ﴿لقوم يؤمنون﴾ لأنهم المنتفعون به وإن كانت الأدلة للكل كقوله تعالى: ﴿هدى للمتقين﴾ (البقرة: ٢)
ولما ذكر تعالى هذا الحشر الخاص والدليل على مطلق الحشر ذكر الحشر العام بقوله تعالى:
﴿ويوم ينفخ﴾ أي: بأيسر أمر ﴿في الصور﴾ أي: القرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ﴿ففزع﴾ أي: فصعق كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿فصعق﴾ (الزمر، ٦٨) ﴿من في السموات ومن في الأرض﴾ أي: كلهم فماتوا والمعنى أنه يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا، وقيل: ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين، فإن قيل: لم قال الله تعالى ففزع ولم يقل فيفزع؟ أجيب: بأنّ في ذلك نكتة وهي الإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة واقع على أهل السموات والأرض لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به، والمراد فزعهم عند
وعلم الله منهم غير ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم ومبكتاً ﴿أتعلمون الله﴾ أي: أتخبرون أخباراً عظيماً الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً ﴿بدينكم﴾ أي بقولكم آمنا ﴿والله﴾ أي: والحال أن الملك المحيط بكل شيء ﴿يعلم ما في السموات﴾ كلها على عظمتها وكثرة ما فيها ﴿وما في الأرض﴾ كذلك ﴿والله﴾ أي: الذي له الإحاطة الكاملة ﴿بكل شيء﴾ أي مما ذكر ومما لم يذكر ﴿عليم﴾ أي: لا تخفي عليه خافية وهو تجهيل لهم وتوبيخ
﴿يمنون عليك﴾ أي: يذكرون ذكر من اصطنع صنيعة وأسدى إليك نعمة ﴿أن أسلموا﴾ أي: من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال منهم ولما كان المنّ هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء قال تعالى لنبيه ﷺ ﴿قل﴾ أي: في جواب قولهم هذا ﴿لا تمنوا عليّ إسلامكم﴾ لو فرض أنكم كنتم متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع اذعان الباطن أي لا تذكروا الامتنان أصلاً لأنّ الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله تعالى فلا ينبغي عدّه صنيعة على أحد فإنّ ذلك يفسده ﴿بل الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه ﴿يمن عليكم﴾ أي: بذكر أنه أسدى إليكم نعمة ﴿أن﴾ أي: بأن ﴿هداكم للإيمان﴾ أي: فهو المانّ عليكم لا أنتم عليه وعلي.
فإن قيل: كيف منّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا. أجيب بأوجه: أحدها: أنه تعالى لم يقل بل الله يمنّ عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أن هداكم للإيمان ثانيها: أنه تعالى منّ عليهم بما زعموا فكأنه تعالى قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار. فقال تعالى ﴿هداكم﴾ في زعمكم
ولهذا قال تعالى: ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي: في قولكم آمنا فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله تعالى وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم. قال القشيري: من لاحظ شيئاً من أحواله فإن رآها من نفسه كان مشركاً وإن رآها لنفسه كان مكراً فكيف يمنّ العبد بما هو شرك أو مكر والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة هذا لعمري فضيحة والمنة تكدّر الصنيعة إذا كانت من المخلوقين وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله تعالى.
﴿إن الله﴾ أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يعلم غيب السموات﴾ أي: ما غاب فيها كلها ﴿والأرض﴾ كذلك ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله تعالى: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون ﴿بصير﴾ أي: عالم أتم العلم ﴿بما تعملون﴾ أي: من ظاهر إسلامكم في الماضي والحاضر والآتي سواء أكان ظاهراً أم باطناً سواء أكان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مفروزاً في جبلاتكم وهو خفيّ عنكم. وقرأ ابن كثير: بالياء التحتية على الغيبة نظراً لقوله تعالى: ﴿يمنون﴾ وما بعده والباقون بالفوقية على الخطاب نظراً إلى قوله تعالى: ﴿لا تمنوا عليّ إسلامكم﴾ إلى آخره وفي هذه الآية إشارة إلى أنه يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» حديث موضوع.


الصفحة التالية
Icon