أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه.
وقوله تعالى: ﴿واتبعوا﴾ عطف على نبذ ﴿ما تتلو﴾ أي: ما تلت ﴿الشياطين﴾ والعرب تضع المستقبل موضع الماضي والماضي موضع المستقبل، وقيل: ما كانت تتلو أي تقرأ ﴿على﴾ عهد ﴿ملك سليمان﴾ من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملَككم سليمان بهذا فتعلموه، فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان عليه الصلاة والسلام، وأمّا سفلاؤهم فقالوا: هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وبقيت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمداً ﷺ وأنزل الله عليه براءة سليمان هذا قول الكلبيّ.
وقال السديّ: كانت الشياطين تسترق السمع فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كلّ كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه وقال: لا أسمع أنّ أحداً يقول: إنّ الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل شيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم قال: فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وأقام ناحية فقالوا: أُدن فقال: لا ولكني ههنا فإن لم تجدوه فاقتلوني وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق فحفروا وأخرجوا تلك الكتب قال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنّ والانس والشياطين والطير بهذا ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد ﷺ برأ الله سليمان من ذلك وأنزل تكذيباً لمن زعم ذلك واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ﴿وما كفر سليمان﴾ إذ لم يعمل السحر وعبر عنه بالكفر ليدلّ على أنه كفر إذا استحله أو احتيج فيه إلى تقدّم اعتقاد مكفر هذا مذهب الشافعيّ وعند أحمد يكفر مطلقاً ﴿ولكنّ الشياطين﴾ هم الذين ﴿كفروا﴾ باستعمال السحر وتدوينه، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسر النون من ولكن مخففة ورفع نون الشياطين والباقون بنصب النون من ولكن مشدّدة ونصب نون الشياطين ﴿يعلمون الناس السحر﴾ يقصدون به إغواءهم وإضلالهم والجملة حال من ضمير كفروا.
تنبيه: السحر لغة صرف الشيء عن وجهه يقال: ما سحرك عن كذا أي: ما صرفك عنه واصطلاحاً مزاولة النفوس الخبيئة لأقوال وأفعال يترتب عليها أمور خارقة للعادة.
واختلف فيه هل هو تخييل أو حقيقة؟ قال بالأوّل المعتزلة واستدلوا بقوله تعالى: ﴿يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى﴾ (طه، ٦٦) وقال بالثاني أهل السنة ويدلّ لذلك الكتاب والسنة الصحيحة، والساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور فيمرض أو يموت منه ويفرّق به بين المرء وزوجه ويحرم تعليمه أو تعلمه، قال إمام الحرمين: ولا يظهر السحر إلا على يد فاسق ولا تظهر
وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر﴾ (التوبة، ٧٢). وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها، وعطاء نصب على المصدر المؤكد، أي: أعطوا عطاء، أو الحال من الجنة، ولما شرح الله تعالى أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول ﷺ أحوال الكفار من قومه فقال:
﴿فلا تك﴾ يا محمد ﴿في مرية﴾، أي: شك ﴿مما يعبد هؤلاء﴾ المشركون من الأصنام أننا نعذبهم كما عذبنا من قبلهم، وهذه تسلية للنبيّ ﷺ ﴿ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم﴾، أي: كعبادتهم ﴿من قبل﴾ وقد عذبناهم ﴿وإنا لموفوهم﴾ مثلهم ﴿نصيبهم﴾، أي: حظهم من العذاب ﴿غير منقوص﴾، أي: كاملاً غير ناقص. ولما ذكر تعالى في هذه الآية إعراضهم عن الاتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب سلاه بأخيه موسى عليه السلام بقوله تعالى:
﴿ولقد آتينا موسى الكتاب﴾، أي: التوراة الجامعة للخير ﴿فاختلف فيه﴾، أي: الكتاب، فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك﴾ بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة ﴿لقضي﴾، أي: لوقع القضاء ﴿بينهم﴾، أي: بين من اختلف في كتاب موسى في الدنيا فيما اختلفوا فيه بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به المحق، ولكن سبقت الكلمة أنّ القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام: ﴿فما اختلفوا حتى جاءهم العلم﴾ (يونس، ٩٣) الآية ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين تعالى أنه به؛ لأنّ كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك فقال تعالى مؤكداً: ﴿وإنهم لفي شك﴾، أي: عظيم محيط بهم ﴿منه﴾، أي: من الكتاب والقضاء ﴿مريب﴾، أي: موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله تعالى ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من خوارق الأحوال. وقيل: الضمير في وإنهم راجع لكفار مكة وفي منه للقرآن ﴿وإن كلا﴾، أي: كل الخلائق، وقوله تعالى ﴿لما﴾ ما زائدة واللام موطئة لقسم مقدّر تقديره والله ﴿ليوفينهم ربك أعمالهم﴾ فيجازي المصدّق على تصديقه الجنة، ويجازى المكذب على تكذيبه النار. وقرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف وإن والباقون بالتشديد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ميم لما والباقون بالتخفيف.
فائدة: قال بعض الفضلاء أنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات: أوّلها: كلمة إن وهي للتأكيد، وثانيها: لفظة كل وهي أم الباب في التأكيد. وثالثها: اللام الداخلة على خبر إن تفيد التأكيد أيضاً. ورابعها: حرف ما إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً. وخامسها: المضمر. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها: النون المذكورة في قوله تعالى ﴿ليوّفينّهم﴾ فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدلّ على أنّ أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله
فذلوا وأهينوا، ونريهم في أنفسهم وأعدائهم فوق ما يحبون وفوق ما يأملون ﴿ونجعلهم أئمة﴾ أي: مقدّمين في الدين والدنيا علماء يدعون إلى الجنة عكس ما يأتي من عاقبة آل فرعون، وقال مجاهد: دعاة إلى الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكاً، لقوله تعالى: ﴿وجعلكم ملوكاً﴾ (المائدة: ٢٠)
وقيل: يقتدى بهم في الخير ﴿ونجعلهم﴾ أي: بعظمتنا وقدرتنا ﴿الوارثين﴾ أي: لملك مصر لا ينازعهم فيه أحد من القبط يخلفونهم في مساكنهم.
﴿ونمكن﴾ أي: نوقع التمكين ﴿لهم في الأرض﴾ أي: كلها لا سيما أرض مصر والشام بإهلاك أعدائهم وتأبيد ملكهم وتأييدهم بكلمة الله، ثم بالأنبياء من بعده صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بحيث يسلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة ويظهر لهم من الخوارق ﴿ونري﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿فرعون﴾ أي: الذي كان هذا الاستضعاف منه ﴿وهامان﴾ وزيره ﴿وجنودهما﴾ أي: الذين كانا يتوصلان بهم إلى ما يريد أنه من الفساد فيقوى كل منهم بالآخر في الأرض فعلوا وطغوا، وقوله تعالى ﴿منهم﴾ أي: المستضعفين متعلق بنري أو بنريد لا بيحذرون، لأنّ ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله ﴿ما كانوا يحذرون﴾ أي: من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم.
وقرأ حمزة والكسائي: ويري بالياء مفتوحة وفتح الراء مع الإمالة وسكون الياء بعد الراء ورفع فرعون وهامان وجنودهما مضارع رأى مسند إلى فرعون وما عطف عليه فلذلك رفعوا، وقرأ الباقون: بالنون مضمومة وكسر الراء وفتح الياء بعدها ونصب الأسماء الثلاثة مضارع أرى فلذلك نصب فرعون وما عطف عليه مفعولاً أوّل وما كانوا هو الثاني، ثم ذكر تعالى أوّل نعمة منّ بها على الذين استضعفوا بقوله تعالى:
﴿وأوحينا﴾ أي: وحي إلهام أو منام ﴿إلى أمّ موسى﴾ لا وحي نبوّة، قال قتادة: قذفنا في قلبها واسمها يوحا وهي بنت لاوي بن يعقوب، وهذا هو الذي أمضينا في قضائنا أن يُسمى بهذا الاسم وأن يكون هلاك فرعون وزوال ملكه على يده بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذابحون ﴿أن أرضعيه﴾ ما كنت آمنة عليه ولم يشعر بولادته غير أخته، قيل أرضعته ثمانية أشهر، وقيل: أربعة أشهر، وقيل: ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها وهو لا يبكي ولا يتحرّك، وقد روي أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من برديّ مطليّ من داخله بالقار ﴿فإذا خفت عليه﴾ أي: منهم أن يصيح فيسمع فيذبح ﴿فألقيه﴾ أي: بعد أن تضعيه في شيء يقيه من الماء ﴿في اليمّ﴾ وهو البحر ولكن أراد هنا النيل ﴿ولا تخافي﴾ أي: لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع ﴿ولا تحزني﴾ أي: ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه، فإن قيل ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ أجيب: بأنّ الخوف الأوّل هو الخوف عليه من القتل لأنه كان إذا صاح خافت عليه أن يسمع الجيران صوته فينمُّوا عليه، وأما الثاني، فالخوف من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في بعض العيون المبعوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان وغير ذلك من المخاوف، فإن قيل ما الفرق بين الخوف والحزن؟.
أجيب: بأنّ الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن غم يلحقه لواقع، وهو فراقه والأخطار به فنيهت عنهما جميعاً وأومنت بالوحي لها ووعدت ما يسليها ويطمئن قلبها ويملؤها غبطة وسروراً وهو ردّه إليها كما قال تعالى.
لتبصر وتذكر كل عبد بماله من النقص وبمادل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه ﴿منيبٍ﴾ أي: رجاع عما خطه إليه طبعه إلى ما يغلبه عليه عقله فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود الصفات إلى علم الذات.
ثم ذكر تعالى دليلاً بقوله تعالى:
﴿ونزلنا من السماء﴾ أي: المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر ﴿ماء﴾ أي شيئاً فشيئاً في أوقات وعلى سبيل التقاطر ولولا عظمتنا التي لا تضاهي لغلب بما له من الثقل والميوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المسرّة وعادت المنفعة مضرّة ﴿مباركاً﴾ أي: نافعاً جدّاً كثير لبركة وفيه حياة كل شيء، وهو المطر فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت ﴿فأنبتنا﴾ أي: بما لنا من القدرة الباهرة ﴿به جناتٍ﴾ من الشجر والثمر والزرع والريحان وغيره مما تجمعه البساتين فتجن أي تستر الداخل فيها ﴿وحب الحصيد﴾ أي: النجم الذي من شأنه أنه يحصد كالبر والشعير ونحوهما وقوله تعالى:
﴿والنخل﴾ منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل وقوله تعالى ﴿باسقات﴾ أي: طوالاً حال مقدّرة لأنها وقت الإثبات لم تكن طوالاً والبسوق الطول يقال بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ومنه قول أبي نوفل في ابن هبيرة:
*يا ابن الذين بمجدهم... بسقتهم قيس فزاره*
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقاً أي طالت قال الشاعر:
*لنا خمر وليست خمر كرم... ولكن من نتاج الباسقات*
*كرام في السماء ذهبن طولا... وفات ثمارها أيدي الجناة*
وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبن قبل النتاج. وقال سعيد بن جبير: باسقات: مستويات وأفردها بالذكر لفرط ارتفاعها ﴿لها طلع﴾ يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في باسقات ويجوز أن يكون الحال وحده لها وطلع فاعل به وقوله تعالى: ﴿نضيد﴾ بمعنى منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبلة الزرع وهو عجيب فإنّ الأشجار الطوال ثمارها بارزة بعضها على بعض لكل واحدة منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز والطلع كالسنبلة الواحدة تكون على أصل واحد وقوله تعالى:
﴿رزقا﴾ يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً ﴿للعباد﴾ ويجوز أن يكون مفعولاً له وللعباد إمّا صفة وإمّا متعلق بالمصدر، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى عند ذكر خلق السماء والأرض تبصرة وذكرى وفي الثمار قال رزقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة.
أجيب: بأنّ الاستدلال وقع لوجود أمرين:
أحدهما: الإعادة. والثاني: البقاء بعد الإعادة فإنّ النبيّ ﷺ كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فقال: أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأنّ البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأولّ تبصرة وتذكرة بالخلق. والثاني: تذكرة بالبقاء والرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى


الصفحة التالية
Icon