من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به أو أخلصاه ﴿للطائفين﴾ حوله ﴿والعاكفين﴾ المقيمين عنده أو المعتكفين فيه ﴿والركع السجود﴾ جمع راكع وساجد وهم المصلون وقرأ نافع وهشام وحفص بيتي بفتح الياء والباقون بالسكون.
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ قال إبراهيم رب اجعل﴾ هذا أي مكة أو الحرام ﴿بلداً آمناً﴾ أي: ذا آمن كقوله تعالى: ﴿في عيشة راضية﴾ (القارعة، ٧) أو آمناً أهله كقول القائل ليل نائم ﴿وارزق أهله من الثمرات﴾ إنما دعا بذلك؛ لأنه كان بواد غير ذي زرع. وفي القصص أنّ الطائف كانت من مدائن الشام بأردن فلما دعا إبراهيم هذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل عليه الصلاة والسلام حتى قطعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعاً ثم وضعها موضعها الآن فمنها أكثر ثمرات مكة.
وقوله تعالى: ﴿من آمن منهم با واليوم الآخر﴾ بدل من أهله قاس إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه الرزق على الإمامة حيث قيده بالمؤمن كما قيدت به ﴿قال﴾ تعالى: ﴿و﴾ أرزق ﴿من كفر﴾ لأنّ الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الإمامة والتقدم في الدين ﴿فأمتعه﴾ في الدنيا بالرزق.
وقرأ ابن عامر بسكون الميم وتخفيف التاء والباقون بفتح الميم وتشديد التاء، وأمّا الهمزة بعد الألف فالجميع اتفقوا على ضمها ﴿قليلاً﴾ أي: مدّة حياته والكفر وإن لم يكن يسبب التمتع لكنه يسبب تقليله بأن يجعله مقصوراً بحظوظ الدنيا غير متوصل به إلى نيل الثواب ولذلك عطف عليه ﴿ثم أضطرّه﴾ أي: ألجئه في الآخرة ﴿إلى عذاب النار﴾ فلا يجد عنها محيصاً ﴿وبئس المصير﴾ أي: المرجع والمخصوص بالذمّ محذوف وهو العذاب قال مجاهد: وجد عند المقام أنا الله ذو بكة أي: صاحبها صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض وحففتها بسبعة أملاك حنفاء يأتيها رزقها مباركة لأهلها في اللحم والماء.
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ يرفع إبراهيم القواعد﴾ أي: الأسس والجدر ﴿من البيت﴾ حكاية حال ماضية كأنه قال إذ كان يرفع.
فإن قلت: وأي فرق بين العبارتين؟ أجيب: بأنّ في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين، وقوله تعالى: ﴿وإسمعيل﴾ عطف على إبراهيم يقولان يا ﴿ربنا تقبل منا﴾ بناءنا ﴿إنك أنت السميع﴾ للقول فتسمع دعاءنا ﴿العليم﴾ بالفعل فتعلم بنياتنا.
روت الرواة أنّ الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال: يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي وتصلي عنده كما يصلى حول عرشي وأنزل الحجر الأسود وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض الله تعالى له ملكاً يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك.
قال ابن عباس: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه وبعث جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في
والمنفعة عليهما، والعصبة والعصابة العشرة فما فوقها. وقيل: إلى الأربعين سموا بذلك؛ لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفى بهم النوائب ﴿إنّ أبانا لفي ضلال﴾، أي: خطأ ﴿مبين﴾، أي: بيّن في إيثاره حب يوسف وأخيه علينا والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد؛ لأنّا في البنوّة سواء ولنا مزية تقتضي تفضيلنا وهي إنا عصبة لنا من النفع له والذّب عنه والكفاية ما ليس لهما.
تنبيه: هاهنا سؤالات: الأوّل: إنّ من المعلوم أنّ تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد فلم أقدم يعقوب عليه السلام على ذلك؟ أجيب: بأنه إنما فضلهما في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيها ولا يلحقه في ذلك لوم.
الثاني: كيف اعترضوا على أبيهم وهم يعلمون أنه نبيّ وهم مؤمنون به؟ وأجيب: بأنهم وإن كانوا مؤمنين بنبوّته لكن جوّزوا أن يكون فعله باجتهاد، ثم أنّ اجتهادهم أدّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد لكونهم أكبر سناً وأكثر نفعاً وغاب عنهم أنّ تخصيصهما بالبرّ كان لوجوه: أحدها: أنّ أمّهما ماتت، ثانيها: أنه كان في يوسف من آثار الرشد والنجابة ما لم يجده في سائر أولاده، ثالثها: أنه وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى وأشرف مما كان يصدر عن سائر أولاده، والحاصل أنّ هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر.
الثالث: أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال عن رعاية مصالح الدنيا والبعد عن طريق الرشد لا الضلال في الدين. الرابع: أنّ قولهم: ﴿ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا﴾ محض حسد، والحسد من أمّهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على أمورٍ مذمومة منها قولهم:
﴿اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً﴾، أي: بحيث يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه، ومنها القاؤه في ذل العبودية، ومنها أنهم أبقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، ومنها إقدامهم على الكذب وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوّة؟ أجيب: بما تقدّم أنّ ذلك كان قبل النبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وهشام والكسائي بضم التنوين من مبين في الوصل، والباقون بالكسر، فإن وقف القارئ على مبين وامتحن في الابتداء يبتدئ بالضم للجميع، وقولهم: ﴿يخل لكم وجه أبيكم﴾ جواب الأمر، أي: يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد، وقولهم: ﴿وتكونوا﴾ مجزوم بالعطف على يخل لكم أو منصوب بإضمار أن ﴿من بعده﴾، أي: قتل يوسف أو طرحه ﴿قوماً صالحين﴾ بأن تتوبوا إلى الله تعالى بعد فعلكم فإنه يعفو عنكم، وقال مقاتل: يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
﴿قال قائل منهم﴾ هو يهوذا وكان أحسنهم رأياً فيه، وهو الذي قال: ﴿فلن أبرح الأرض﴾ (يوسف، ٨٠) وقيل: روبيل وكان أكبرهم سناً ﴿لا تقتلوا يوسف وألقوه﴾، أي: اطرحوه ﴿في غيابت الجب﴾، أي: في أسفله وظلمته، والغيابة كل موضع ستر شيئاً وغيبه عن النظر قال القائل:

*فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها، والجب البئر الكبيرة التي ليست مطوية سميت جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء غير القطع من طيّ أو ما أشبهه، وإنما ذكر الغيابة مع الجب دلالة على
سعيد بن جبير عن ابن عباس لقد قال موسى ذلك وهو أكرم خلقه عليه وإنه كان قد بلغ به من الضر أن اخضرّ بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه الشريف بظهره وإنما قال ذلك في نفسه مع ربه وهو اللائق به، وقيل رفع به صوته لاستماع المرأتين وطلب الطعام وهذا لا يليق بموسى عليه السلام فانظر إلى هذا النبيّ عليه السلام وهو خلاصة ذلك الزمان ليكون لك في ذلك أسوة وتجعله إماماً وقدوة وتقول ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الحياة الدنيا صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها رفعة لدرجاتهم واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك وفي القصة ترغيب في الخير وحث على المعاونة على البرّ وبعث على بذل المعروف مع الجهد فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي.
﴿فجاءته إحداهما﴾ ممتثلة أمر أبيها وقوله ﴿تمشي﴾ حال، وقوله ﴿على استحياء﴾ حال أخرى، أي: مستحيية إما من جاءته وإما من تمشي قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءته مستترة وضعت كمّ درعها على وجهها استحياء ثم استأنف الإخبار بما تشوّف إليه السامع بقوله تعالى: ﴿قالت﴾ وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه ﴿إن أبي﴾ وصورت حاله بالمضارع بقولها ﴿يدعوك ليجزيك﴾ أي: يعطيك مكافأة لك لأن المكافأة من شيم الكرام ﴿أجر ما سقيت لنا﴾ أي: مواشينا، قال ابن إسحاق: اسم الكبرى صفوراً والصغرى لبنى، وقيل ليا، وقال غيره: صفرا وصفيرا، وقال الضحاك: صافورا، وقال الأكثرون: التي جاءت لموسى الكبرى، وقال الكلبيّ هي الصغرى، قال الرازي وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل.
فإن قيل: في الآية إشكالات إحداها: كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال ﷺ «اتقوا مواضع التهم»، وثانيها: أنه سقى أغنامهما تقرّبا إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه وذلك غير جائز في الشريعة، وثالثها: أنه عرف فقرهما وفقر أبيهما وأنه عليه السلام كان في نهاية القوّة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفاني الفقير والمرأة الفقيرة، ورابعها: كيف يليق بالنبيّ شعيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟.
أجيب عن الأوّل: بأن الخبر يعمل فيه بقول المرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حرّاً كان أو عبداً ذكرا كان أو أنثى وهي ما كانت مخبرة إلا عن أبيها وأما المشي مع المرأة بعد الاحتياط والتورّع فلا بأس به، وعن الثاني: بأن المرأة لما قالت ذلك لموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرّك بذلك الشيخ الكبير، لما روي أنه لما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيئاً فقال اجلس يا شاب فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك ألست بجائع قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا، وفي رواية لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ بالمعروف ثمناً، فقال له شعيب لا والله يا شاب ولكنها
ولم يختلفوا في وأدبار النجوم وقوله تعالى: وأدبار معطوف إما على قبل الغروب وإما على من الليل وقال عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما: إدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي عنه مرفوعاً. قال البغوي: هذا قول أكثر المفسرين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما كان رسول الله ﷺ على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح» وعن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» يعني بذلك سنة الفجر وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه «ما أحصي ما سمعت رسول الله ﷺ يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» وعن مجاهد وأدبار السجود: هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله ﷺ من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وكبر ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين فذاك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» وعنه أيضاً «أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال ﷺ وما ذاك فقالوا: صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد مثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً». وقوله تعالى:
﴿واستمع﴾ أي: لما أخبرك به من أحوال القيامة فيه تهويل وتعظيم للمخبر به والمحدّث عنه. كما روي عن النبيّ ﷺ أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل «يا معاذ اسمع ما أقول ثم حدّثه بعد ذلك» وقوله تعالى ﴿يوم﴾ ظرف لاستمع أي استمع ذلك في يوم ﴿ينادي المنادي﴾ أي: إسرافيل يقف على صخرة ببيت المقدس فينادي بالحشر فيقول: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
وقيل: المنادي جبريل ﴿من مكان قريب﴾ بحيث يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب يكونون في السماع سواء، لا تفاوت بينهم أصلاً. واختلف في ذلك المكان القريب. فأكثر المفسرين: أنه صخرة بيت المقدس فإنها أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية. وقوله تعالى:
﴿يوم يسمعون الصيحة﴾ بدل من يوم ينادي والصيحة النفخة الثانية وقوله تعالى: ﴿بالحق﴾ حال من الصحية أي متلبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون ملتبسين بسماع حق ﴿ذلك﴾ أي: اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين الجدّ ﴿يوم الخروج﴾ أي: الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى المحشر وهو من أسماء يوم القيامة.
﴿إنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿نحن﴾ أي: خاصة ﴿نحيي ونميت﴾ أي: نجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرّة


الصفحة التالية
Icon