أحلامهم ﴿من الناس﴾ وهم اليهود؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ ﴿ما ولاهم﴾ أي: أيّ شيء صرف النبيّ والمؤمنين ﴿عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾ وهي بيت المقدس وقيل: هم المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء، وقيل: المشركون قالوا قد تردّد على محمد أمره واشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب.
فإن قيل: ما فائدة الإخبار بذلك قبل وقوعه أجيب: بأن فائدة توطين النفس وإعداد الجواب، فإنّ مفاجأة المكروه أشدّ والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطراب إذا وقع وقبل الرمي يراش السهم، والقبلة في الأصل الحالة التي عليها الإنسان مأخوذة من الاستقبال، وصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة قال الله تعالى ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿المشرق والمغرب﴾ أي: الجهات كلها ملكاً والخلق عبيده لا يختص به مكان دون مكان بخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه ﴿يهدي من يشاء﴾ هدايته ﴿إلى صراط﴾ أي: طريق ﴿مستقيم﴾ وهو ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.
وقوله تعالى: ﴿وكذلك﴾ الكاف فيه للتشبيه أي: كما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناكم ﴿جعلناكم﴾ يا أمة محمد ﴿أمة وسطاً﴾ أي: خياراً عدولاً قال تعالى: ﴿قال أوسطهم﴾ (القلم، ٢٨) أي: خيرهم وأعدلهم، وخير الأشياء أوسطها لا إفراطها ولا تفريطها؛ لأنّ الإفراط المجاوزة لما لا ينبغي والتفريط التقصير عما ينبغي كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور وهو الوقوع في الشيء بقلة مبالاة وبين الجبن؛ لأنّ الأفراد يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية محفوظة.
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قام فينا رسول الله ﷺ يوماً بعد العصر فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان فقال: أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل» وقوله تعالى: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ أي: يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم ﴿ويكون الرسول عليكم شهيداً﴾ أي: يزكيكم ويشهد بعدالتكم علة للجعل أي: لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد ولا ظلم بل أوضح السبل وأرسل الرسل، فبلغوا ونصحوا ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات والإعراض عن الآيات، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين قبلكم وبعدكم.
روي أن الله تعالى يجمع الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير، فينكرون ويقولون ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد ﷺ فيشهدون فتقول الأمم من أين علموا أنهم قد بلغوا، وإنما أتوا بعدنا فتسأل هذه الأمة، فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق، على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد ﷺ فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
وقال وهب بن منبه: قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهباً وزنه فضة ووزنه مسكاً وحريراً، وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره حينئذ سبع عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة سنة، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى:
﴿وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته﴾ واسمها زليخا وقيل: راعيل ﴿أكرمي مثواه﴾ قال الرازي: اعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فاللائق بالعاقل أن يحترز من ذكرها انتهى. ولكن البغوي ذكرها وتبعه على ذلك جماعة من المفسرين واللام في امرأته متعلقة بقال لا باشتراه، والمثوى موضع الإقامة، أي: اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أي: حسناً مرضياً بدليل قول يوسف: ﴿إنه ربي أحسن مثواي﴾ والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكية حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ساكنة في كنفنا.
قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال: سلام الله على المجلس العالي. ولما أمر بإكرام مثواه علّل ذلك بأن قال: ﴿عسى أن ينفعنا﴾، أي: يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نبيعه بالربح إن أردنا بيعه ﴿أو نتخذه ولدا﴾، أي: نتبناه وكان حصوراً ليس له ولد.
قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته: ﴿أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا﴾، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: ﴿استأجره﴾، وأبو بكر في عمر حيث استخلفه. ﴿وكذلك﴾، أي: وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه قلب العزيز ﴿مكنا ليوسف في الأرض﴾، أي: أرض مصر. قال البقاعي: التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل والنبوّة، وقوله تعالى: ﴿ولنعلمه من تأويل الأحاديث﴾، أي: تعبير الرؤيا عطف على مقدر متعلق بمكنا، أي: لنمكنه أو الواو زائدة ﴿والله غالب على أمره﴾، أي: الأمر الذي يريده؛ لأنه تعالى فعال لما يريد، ولا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه أو على أمر يوسف أراد إخوته قتله، فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه، فغلب أمره وظهر اسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب الله أمره حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يضرّوا أباهم ويطيبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره تعالى فعصمه حتى لم يهمّ بسوء بل هرب منه غاية الهرب، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله تعالى إلا إعزازه وبراءته، ثم أراد يوسف عليه السلام ذكر الساقي له فغلب أمره تعالى فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه الله تعالى له وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أنه لا أمر لغيره ﴿ولكنّ أكثر الناس﴾ وهم الكفار ﴿لا يعلمون﴾ أنّ الأمر كله
بيد الله تعالى، أو أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو صانع بيوسف وما يريد منه فمن تأمّل في الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أنّ الأمر كله لله، وأنّ قضاء الله تعالى غالب. ولما بين تعالى أنّ إخوته أساؤوا إليه وصبر على تلك الشدائد والمحن ومكنه
فرعون وقومه فعند ذلك طلب من يعينه بأن ﴿قال رب﴾ أي: أيها المحسن إليّ ﴿إني قتلت منهم نفّساً﴾ هو القبطي السابق وأنت تعلم أني ما خرجت إلا هارباً منهم لأجلها ﴿فأخاف﴾ إن بدأتهم بمثل ذلك ﴿أن يقتلون﴾ به لوحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج فأخاف أن يفوت المقصود بقتلي ولا يحمي من ذلك إلا أنت وإنّ لساني فيه عقدة.
﴿وأخي هارون هو أفصح مني لساناً﴾ أي: من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون، وقيل كانت من أصل الخلقة والفصاحةُ لغةً الخلوص ومنه فصح اللبن خلص من رغوته وفصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية ﴿فأرسله﴾ أي: بسبب ذلك ﴿معي رِدْءَاً﴾ أي: معيناً من ردأت فلاناً بكذا أي: جعلته له قوّة وعاضداً وردأت الحائط إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط، وقرأ نافع بنقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة، والباقون بسكون الدال وتنوين الهمزة بعدها، ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله ﴿يصدّقني﴾ أي: بأن يخلص بفصاحته ما قلته ويبينه ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً فيكون مع تصديقه لي بنفسه سبباً في تصديق غيره لي.
وقرأ عاصم وحمزة بضم القاف على الاستئناف أو الصفة لردءاً والباقون بالسكون جواباً للأمر، قال الرازي: ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوب الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد، وفائدة الفصاحة إنما تظهر في ذلك لا في مجرّد قوله صدقت، قال السدي: نبيان وآيتان أقوى من نبي واحد وآية واحدة وهذا ظاهر من جهة العادة وأما من جهة الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين، ثم علل سؤاله هذا بقوله ﴿إني أخاف أن يكذبون﴾ أي: فرعون وقومه ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.
﴿قال﴾ الله تعالى له مجيباً لسؤاله ﴿سنشدّ عضدك﴾ أي: أمرك ﴿بأخيك﴾ أي: سنقويك ونعينك به ﴿ونجعل لكما سلطاناً﴾ أي: ظهوراً عظيماً وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف ﴿فلا﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا ﴿يصلون إليكما﴾ بنوع من أنواع الغلبة ﴿بآياتنا﴾ أي: نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات العظيمة بنسبتها إلينا ولذلك كانت النتيجة ﴿أنتما ومن اتبعكما﴾ من قومكما وغيرهم ﴿الغالبون﴾ أي: لا غيركم وهذا يدل على أنّ فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في الله تعالى وليس في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ما أوعدهم به.
قال البقاعي: وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرّر من ذكرهم وقد كشفت العاقبة عن أنّ السحرة ليسوا من جنوده بل من حزب الله تعالى وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها. اه ولما كان التقدير فأتاهم كما أمره الله تعالى وعاضده أخوه كما أخبر الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى وأظهرا ما أمرا به من الآيات بنى عليه مبيناً بالفاء سرعة امتثاله.
﴿فلما جاءهم﴾ أي: فرعون وقومه ولما كانت رسالة هارون عليه السلام إنما هي تأييد لموسى عليه السلام أشار
تعالى:
﴿هل أتاك﴾ أي يا أكمل الخلق ﴿حديث ضيف إبراهيم المكرمين﴾ تسلية للنبيّ ﷺ وتبشير له بالفرج وسماهم ضيفاً؛ لأنه حسبهم كذلك ويقع على الواحد والجمع لأنه مصدر، وسماهم مكرمين عند الله تعالى، أو لأنّ إبراهيم عليه السلام أكرمهم بأن عجل قراهم وأجلسهم في أكرم المواضع واختيار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبيّ ﷺ مأموراً بأن يتبع ملته وكان إبراهيم عليه السلام أكرم الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: لأنّ إبراهيم عليه السلام خدمهم بنفسه، وعن ابن عباس سماهم مكرمين لأنهم جاؤوا غير مدعوين، وقال ﷺ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».
فإن قيل: إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟ أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أنّ الفرج في حق الأنبياء والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا كقوله تعالى: ﴿فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون﴾ (الزمر: ٢٥)
فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته قال القشيري: وقيل كان عددهم اثني عشر ملكاً وقيل: جبريل عليه السلام وكان معه تسعة وقيل: كانوا ثلاثة، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها.
﴿إذ﴾ أي حديثهم حين ﴿دخلوا عليه﴾ أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند الدال والباقون بالإدغام.
تنبيه: اختلف في العامل في إذ على أربعة أوجه: أحدها: أنه حديث أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه. ثانيها: أنه منصوب بما في ضيف من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر ولذلك استوى فيه الواحد المذكر وغيره، كأنه قيل: الذين أضافهم في وقت دخولهم عليه. ثالثها: أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول: أكرموا إذ دخلوا. رابعها: أنه منصوب بإضمار اذكر، ولا يجوز نصبه بأتاك لاختلاف الزمانين.
فإن قيل: إنما أرسلوا إلى قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام؟ أجيب من وجهين: أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين ولوط من قومه، وعادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له: اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه. ثانيهما: أن إبراهيم عليه السلام كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمّة عظيمة، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على العباد، فقال لهم: بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف من هلك ويكون من صلبه فروع الأنبياء عليهم السلام ﴿فقالوا سلاماً﴾ أي هذا اللفظ. ﴿قال سلامٌ﴾ أي: هذا اللفظ، والمشهور أنّ السلام الأوّل المراد به التحية أن نسلم سلاماً، وقيل: إن سلاماً معناه حسناً؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو ويأثم، فكأنهم قالوا قولاً حسناً سليماً من الإثم فيكون مفعولاً به، لأنه في معنى القول، وأمّا رفع الثاني فالمشهور أنه التحية فهو مبتدأ وخبره محذوف أي عليكم، وقيل: إنه السلامة، أي: أمري سلام لأني لا أعرفكم، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام والباقون بفتح السين واللام وألف بعدها والمعنى واحد.