له ضربا حتى دمى رأسه. فقال: يا أمير المؤمنين حسبك. قد ذهب الذى أجد فى رأسى...
وهذه الرواية وتلك لهما دلالتهما فى موضوعنا.. ولا سيما فى قول عمر للرجل يؤنبه: تسأل محدثة؟ أى أتثير بين الناس أمرا جديدا لم يتعودوه قبل ذلك؟ وهو السؤال عن معنى قوله تعالى «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً».. ونحوهما.
مما يدل على أن مثل هذه الأسئلة لم يكن من المعتاد أن يسألها الصحابة فى زمن الرسول، وحتى عهد عمر.. بل كانوا يعتبرونها تكلفا يثير الشبهة... وفى الاهتمام بإرسال الرجل من مصر الى المدينة، وضرب عمر له، ثم فى أمره لأبى موسى بعزله عن المسلمين، ما يعطينا دلالة قوية على سوء النظرة فى ذلك الوقت، إلى كل من يثير مثل هذه الأسئلة.. ودلالة على مقدار حرص عمر وولاته، على تجنيب المسلمين الاشتغال بمعانى المرسلات والعاصفات ونحوهما، مما يعدونه متشابها، محافظة على النهج الذى كان فى عهد الرسول وخليفته أبى بكر، ولذلك أنكر عليه مسلكه وقال له: أتسأل محدثة؟ لأنه يحدث فى الوسط الإسلامى ما لم يتعوده.. ولهذا أيضا نجد الإمام مالك يقول فى الرد على من يسأله عن معنى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)، الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.
وحينئذ لا بد أن يرد على ذهن القارئ سؤال: كيف إذن كانوا يفهمون مثل هذا؟
وجواب هذا.. أنهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى، وما يفيده السياق فى مثل هذه الأمور وغيرها، مما لا يتعلق بها حكم تكليفى محدد. فمثلا.. القسم بالمرسلات وما بعدها من العاصفات والناشرات والفارقات.. يفهمون أنها أشياء عظيمة، يقسم الله بها على أمر مهم، وهو: البعث.. لا يهمهم المراد بالعاصفات. كما عنى بها من بعدهم وقالوا: الرياح، أو الملائكة، ولم يتفقوا على رأى، لأنهم يجتهدون فى بيان المراد، ولكل اجتهاده. فكان الصحابة لا يخوضون فى بيان المراد تحديدا، بل يرون أن ذلك تكلف لا يصح الاشتغال به، ما دام المعنى الكلى مفهوما، وليس هناك ما يوجب فهم المراد بالمفردات..