[غافر: ١٧]، وأن أولئك الضالين الذين يقولون: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤]، إنما يهدرون آدميتهم، فهم كالأنعام بل أضل سبيلا.
وإذا كانت هذه الملامح هى أولى خطواتنا على الطريق، فإن الأمر يستدعى أن تكون خطواتنا بمكة، حيث نبتت الدعوة، وننطلق معها، لنتعرف عليها فى جوها ومجالها، حتى تكون الصورة واضحة، فبعد أن نرسى القواعد الأساسية للاعتقاد، ويقام البناء على الإيمان بوحدانية الله، والإيمان باليوم الآخر، والحساب والعقاب، وتحارب التقليد، وإغفال العقل، تبدأ النفس الإنسانية تتوزعها نوازع شتى من خارج بيئتها الحقيقة، فتجد معها فى طريق الحياة من يتناقض مظهره مع مخبره، وأقواله مع أفعاله، ويبدى شيئا ويخفى آخر.
وهكذا نقائض فى الحياة بدأت تطل برأسها، وتعكر صفو الحياة، وجوهر الدين وحقائقه، فكان لا بدّ من كشف ذلك، حتى يتطهر المجتمع من أدرانه، وينقى من شوائبه، حتى يكون المجتمع سليما فى صفوفه، قويا فى بنيانه، لا تهزه كلمة، ولا تؤثر فى عزيمته شائعة.
فهذا النفاق الذى أطل برأسه فى المدينة، دفعت إليه ظروف المجتمع الجديدة، وضعف فى بعض النفوس، ودسائس من المخالفين من أهل الديانات الأخرى، فاحتاج الأمر إلى تطهير الأرض من عوامل فسادها فى العقيدة، والشخصية، والنفوس، وتهيأ لذلك النبت الجديد الذى تحوطه عناية الله بالحفظ والصون، وبكل ما يمده بأسباب الحياة، أن يقوى ويشتد بفعل الطاعات، واجتناب المحرمات، وبالبذل من جانب المؤمنين بإنفاق المال، والتحكم فى النفس الشحيحة، فكان الإنفاق والدعوة إليه من مقومات بناء المجتمع الجديد، الذى يقوم على الالتزام والعمل من أجل الآخرين، والدفاع عن العقيدة، يقبل على ذلك رغبة فى رضا الله سبحانه وتعالى، لا طلبا للشهرة، وإنما هو الإحساس بالمسئولية حيال أولئك الذين يتصدون للدعوة، ويحاولون إطفاء نور الله، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: ٣٢].
وإذا كان العمل فى هذا البناء يحتاج إلى تضحية بالنفس فى صد اعتداءات المعتدين، وهجمات الحاقدين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله، فهو يحتاج كذلك إلى اليد التى
تنفق، والنية الحسنة التى تفعل الخير، والمال الذى تقوم عليه الحياة.


الصفحة التالية
Icon