تناول المثل واقع هؤلاء المشركين الذين يشركون مع الله إلها آخر يتنازلون برغبتهم واختيارهم عما ميزوا به من عقل، فاتجهوا إلى أصنام يعبدونها ويسلمون إليها رقابهم ويخضعون لمشيئتها، إن كانت لها مشيئة، وفى نفس الوقت لا يرضون أن يكون أولئك العبيد والأرقاء والإماء الذين يملكون رقابهم، لا يرضون أن يكونوا لهم شركاء فيما يملكون من مال، أو يتدخلون فى شئونهم الخاصة والعامة، وأن تتساوى تصرفاتهم مع تصرفات السادة والأمراء، يأنفون من ذلك، ويخافون أن يكونوا أندادا لهم.
ومع ذلك يرضى أولئك الكفار أن يشركوا مع الله فى عبادته تلك الأحجار والتماثيل العاجزة، وهو القادر الخالق حتى لهذه المعبودات، وينسبوا إليه الشركاء.
بهذا الأسلوب الإقناعى المستمد من الحياة التى يحياها أولئك الناس، الحياة الاقتصادية والاجتماعية التى تعتمد على تجارة العبيد، واستغلال الأرقاء والإماء، يخاطبهم ويوجه تقريعه ولومه لمن يهمل ما ميزه الله به من عقل فضله به على بقية المخلوقات، وأعطاه القدرة على الملاحظة، والتدبر، وحسن التصرف.
حقا إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأعراف: ١٩٤].
اتجاهات ولا شك تدل على تدن فى التفكير، وإلغاء للعقل يخرج بالإنسان من دائرة الإكرام الذى عبرت عنه الآية الكريمة: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء:
٧٠].
ما الموقف الذى يدعو إليه المثل؟ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:
٢٨]، بهذا الختام نلمس ما يدعو إليه من موقف سليم فى الاعتقاد، والعمل، والسلوك، موقف ذلك الإنسان الذى يتلقى ضوء السماء، فيسير فى حياته لا يتخبط، يحافظ على منزلته التى حباه الله بها فى دنياه، ويتجه اتجاها حقيقا إلى خالقه رب العباد جميعا، وخالق الأسباب والمسببات، وأن يقيم اعتقاده على الإيمان بالله وحده الذى يأخذ بيده على صراط الله المستقيم، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم: ٣٠].
وما دام هذا الدين هو الفطرة، فعلى كل مؤمن أن يرجع إلى ربه، وأن يعرف طريقه


الصفحة التالية
Icon