قال المفسرون فى بيان مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله تعالى أمر بالعبادات فى أول السورة، حيث قال جل ذكره: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: ١، ٢]، إلى قوله تعالى: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون: ١١]، ولما كان الاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفته سبحانه، عقبها بذكر ما يدل على وجوده، واتصافه بعنوان الجلال والكمال، فذكر الاستدلال بتقلب الإنسان فى أدوار الخلقة، وأدوار الفطرة.
فقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ، أى آدم مِنْ سُلالَةٍ، أى خلاصة مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] (١) ثُمَّ جَعَلْناهُ، أى نسله، فحذف المضاف، نُطْفَةً، أى منيا من الصلب والترائب فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون: ١٣]، وهو الرحم، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، أى صيرنا النطفة البيضاء علقة، أى قطعة دم حمراء، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، أى صيرنا قطعة الدم الحمراء قطعة لحم قدر ما يمضغ، لا شكل فيها ولا تخطيط، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، أى جعلناها عظاما من رأس ورجلين وما بينهما، يعنى أصبحت ذات شكل مخصوص، ووضع معين، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً، أى كسونا بما لنا من قوة الاختراع تلك العظام لحما بما ولدنا منها ترجيعا لحالها قبل كونها عظاما، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤]، مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع ظاهره وباطنه، بل كل عضو من أعضائه، وكل جزء من أجزائه، عجائب وغرائب لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح.
وإذا كان لنا أن نتكلم عن تفاوت العطف بالفاء وثم، فإنا نقول: إن المعطوف بكلمة «ثم» مستبعد حصوله مما قبله، وهو المعطوف عليه، فجعل هذا الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخى والبعد الحسّى؛ لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب، وكذا جعل النطفة البيضاء دما أحمر، وهذا بخلاف جعل الدم لحما، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: ١٤]، وبخلاف تصليب المضغة وجعلها عظاما المنبئ عنه قوله تعالى:
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، وكذا مد اللحم على العظم ليستره، المصرح به فى قوله